برشلونة | في أمسية صيفية، خرجت من منزلي متّجهة نحو البحر، وكعادتي كنت أبحث عنّي على الجدران العتيقة، شيشة على الحائط و«زرياب» مكتوبة بالعربية كان كفيلاً بأن أجدني. دخلت المطعم، فاستقبلتني لوحة العرس الفلسطيني، وفتاة بهيّة الوجه تقف خلف البار، أنا كيت، كيف أخدمك؟هل أنت فلسطينية، بادرتها بالسؤال؟ فتبسّمت وعرفت من سؤالي فوراً بأني فلسطينية، وبدأت الحكاية.
«اسمي كيت بورتن، أنا بلجيكية الأصل، وأهلي من إنكلترا» حدثتني بلغة عربية ولهجة فلسطينية، فحفزت إجابتها لديّ أسئلة أخرى، كما أن ملامح بلدي الموجودة على جدران المطعم، كلوحة معلّقة على الحائط كتب عليها باللغة الإنكليزية «Visit Palestine» زادت من رغبتي بمعرفة كيت. لقد أخذتني من قلبي حين بدأت بسرد الحكاية.
بدأت كيت حديثها عن مشروعها «Ziryab shush lounge»، مكان تظهر فيه حضارات حوض المتوسط من مشرقه ومغربه، حيث يقدّم المطعم مأكولات عربية وغربية، فيأتي الناس إلى هنا ليستمتعوا بزيارة تلك البلدان من خلال أطباق تلك البلدان، واللذيذ أنك تتذوّق فلسطين، وتراها حاضرة في قائمة المأكولات والمشاريب الخاصة بالمطعم.
لكن كيف حضرت فلسطين إلى قائمة طعامها، ومن أين لها باللهجة الفلسطينية، تخبرني كيت أنها درست الاقتصاد في لندن، لكنها لم تجد نفسها في هذا المجال، «انتقلت إلى العمل الإنساني في جنوب أفريقيا، ثم سمعت أشياء عن فلسطين، عن الوضع في فلسطين، وكنت دائماً أريد الذهاب إلى هناك، فتقدمت لوظيفة أعلن عنها في غزة، وقد حصلت على هذا العمل».
كان العمل الذي انخرطت فيه كيت ضمن مشروع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 2004، لكن بسبب تفاقم الوضع الأمني في قطاع غزة، كان يتم نقل موظفي الأمم المتحدة إلى مدينة القدس، كلما ساءت الأوضاع هناك، تقول كيت «لم يعجبني ذلك لأني أردت أن أكون في غزة وأبقى فيها وأعمل هناك، فتركت الأمم المتحدة، وعملت مع مؤسسة أصغر اسمها الميزان لحقوق الإنسان، مديرها عصام يونس، وهو رجل عظيم والمؤسسة رائعة، تعمل في الحقوق الإنسانية والاقتصادية للشعب الفلسطيني في غزة». عملها الجديد حقق لها رغبتها بالعمل في غزة، لكن مسألة الحماية التي كانت متوفرة لها خلال عملها مع الأمم المتحدة لم تعد متوفرة. تعرضت كيت مع أمها وأبيها للخطف في عام 2005، ورغم احتجازها لثلاثة أيام، إلا أنها تتحدث عن الأمر بابتسامة، تدعو إلى الدهشة «كانوا مجموعة مراهقين أرادوا لفت الأنظار، لم يكن الخاطفون يعلمون أني ناشطة مع مؤسسة فلسطينية، ظنّوا بأننا أجانب، ويمكنهم المطالبة بما يريدون مقابل إطلاق سراحنا، لم يكن هناك ترتيب للاختطاف بل كان عشوائياً، كانت مطالبهم أن تجرى الانتخابات الفلسطينية في القدس، وإنهاء الاحتلال، بجميع الأحوال هذه القصة تم إغلاقها الآن، ففي الآخر عاملونا بشكل جيد جداً وقدموا لنا مسخن، هذا الطبق الفلسطيني اللذيذ. وللأمانة بعدما علم أهل غزة باختطافي، شعر المختطفون بإحراج شديد، فقد كان مذهلاً رد فعل الناس، إذ خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بتحريرنا من أيدي الخاطفين». حادثة الاختطاف لم تحملها على ترك فلسطين، بل استمرت في عملها لمدة عامين مع المؤسسة نفسها، لكن في رام الله. غادرت فلسطين نحو أعمال إنسانية أخرى، منها مهمات في بغداد، لتتوقف بعدها، وتغادر المشرق العربي، وتستقر في إسبانيا منذ نحو عشر سنوات، وتفتتح في برشلونة مشروع «زرياب» لماذا زرياب؟ كان السؤال يحوم في رأسي، ومن دون أن أطرحه حدّثتني كيت «بداية لم أكن أعرف هذا الاسم، تعرفت عليه حين كنت أزور مكاناً اسمه زرياب في رام الله، دلّني صديق عليه، وبعدها حكى لي قصة زرياب الموسيقي العربي الذي ولد في العراق في القرن الثامن في بغداد، ثم أتى إلى الأندلس في القرن التاسع، وكان له تأثير كبير على حضارة الأندلس وثقافتها في حينها، فقد امتلك المعرفة في العديد من المجالات كالرياضيات والكيمياء والفلسفة، وقد استطاع أن يؤثر كثيراً في ثقافة الأندلس التي أصبحت جزءاً من الثقافة الإسبانية، ستجدين حتى الآن الكثير من الأمور التي تطورت بإثره وهي باقية حتى الآن. تأثرت جداً بقصته بعدما عرفتها، لقد ألهمتني في صناعة مشروعي، فأنا أريد كل من يعيش التجربة في زرياب أن يكتشف شيئاً جديداً وأن يحمل معه معلومة جديدة عن مكان حتى وإن لم يزره يوماً، لكن يستطيع أن يجربه وأن يعلم لو القليل عنه، حتى لو كان مجرد طعم مختلف، تماماً كالرحلة التي قطعها زرياب من المشرق إلى الغرب».
ابتدأت كيت مشروعها بافتتاح صالة الشيشة، وبعد ذلك توسع عملها ليشمل مطعماً أيضاً يحمل الاسم ذاته، عمدت كيت منذ افتتاحها مشروعها إلى أن يعمل فيه أشخاص من الصُمّ. لاحظت اهتمامي بالأمر، بعدما أدركتُ من تحيتهم أنهم جميعاً صُمّ «أخي من الصمّ، وهو شريك في المشروع، وجميع العاملين في صالة الشيشة هم من الصُمّ، فنحن نحب أن نمنحهم فرص عمل بيننا».
تقول كيت: «أريد العودة إلى فلسطين، يمكنك أن تسألي أيّ أحد عمل في فلسطين، سيقول لك إن هذا المكان سيسكن قلبك»


زاوية الحانة في مطعمها صغيرة ودافئة، التوسع الذي قامت به في مشروعها، حافظت فيه على النمط الشرقي، والغربي معاً، فوضعت رسومات لسيدات من الصحراء العربية يدخنّ الشيشة. فكرة المشروع هي خلق بيئة خاصة يتم فيها عرض الثقافات المختلفة المنتمية إلى حوض المتوسط من خلال تقديم الأطباق الخاصة لكل بلد مع المحافظة على نكهته. «هناك تأثير كبير بالتراث الفلسطيني، لكن أيضاً من كل العالم العربي ليس فقط فلسطين، فنحن نقدم أطعمة من شمال أفريقيا ولدينا بهارات من رأس الحلود ولدينا زعتر وسماق، ولدينا أيضاً أطباق من اليونان وفرنسا وإيطاليا، ليس فقط فلسطين، لكن ما أردته أن تكون فلسطين حاضرة، أريدها أن تكون جزءاً من التجربة التي سيعيشها زوار زرياب».
تحب كيت أن تتحدث عن فلسطين، هي مدركة جيداً أن معظم الناس لا يعلمون جذور القضية، لذلك تحضر فلسطين في الجزء الأكبر من حكايتها. «بالنسبة إليّ، مجرد حضور فلسطين في هذا المشروع هو دعوة للتحدث عنها والحديث عن المشكلة وشرحها، حتى لو أني أرى أنه لا يوجد أفق للحل، لكن علينا الاستمرار بالتحدث عنها والتفكير بها، وإبقاء المحاولات قائمة لإيجاد حلول لها، وللشعب الفلسطيني، هناك نقص معرفي بالقضية وجذورها، الناس لا يعلمون، لذلك لا يتحدثون عنها، كما أنهم يجهلون جذر الصراع، فهذا الصراع قديم جداً ومعقد، ولا أحد يعلم متى أو كيف سينتهي. دائماً ترين نفس المشكلة، نفس الظلم، ونفس الادعاءات، فمن أكثر الأشياء ظلماً التي رأيتها في حياتي على الإطلاق ما يحدث في غزة، هذا المكان المحاصر، حيث يوجد أكثر من مليونَي إنسان يعيشون في مساحة أرض صغيرة جداً».
مكان كيت أو مطعمها في برشلونة، يتحدّث عن فلسطين، تقول: «فلسطين مرئية، أضع هذا الإعلان على الحائط حيث يراه الجميع، وهو بوستر عن دعوة لزيارة فلسطين، وأعلّق فوق البار أيضاً تطريز العرس الفلسطيني، قدمته لي معلمة في مدرسة للأطفال الصم اسمها "أطفالنا" موجودة في غزة». ليس الشكل فقط، قائمة الطعام والمشروبات، فيها عناصر فلسطينية «أحرص على وضع بيرة "طيبة" في مقدمة قائمتنا، وهي بيرة صُنعت في فلسطين، ونحن نعرضها باسم "بيرة بمذاق الثورة" وذلك يجعل الناس يرونها ويتساءلون، فبعض الزبائن يتساءلون "آه لم أكن أعلم أن الفلسطينيين يصنعون البيرة"، أو مثل "هل يشرب الفلسطينيون البيرة؟" فيطلبها من يريد أن يظهر دعمه وتأييده للفلسطينيين، والناس يحبّون ذلك، على الرغم من أنهم لا يعلمون كثيراً عن تفاصيل الصراع، لكن يحبون أن يظهروا تعاونهم وتأييدهم للقضية»، تقدّم كيت في مطعمها أيضاً خبزاً مصنوعاً في حيفا «نستورد من حيفا، من مخبز "مينا ميني بيتا" نوعاً من الخبز الفلسطيني، له وصفته الفلسطينية الخاصة، وهذه البيتا تكلفنا الكثير للحقيقة، لكن بالنسبة إلينا، المهم أن نعلن أن هذا خبز فلسطيني بوصفته ونكهته الفلسطينية، ويهمنا أيضاً دعم سوق العمل في فلسطين في أراضي الـ 48». هذا الخبز الحيفاوي يفتح حواراً مع زبائن من منابت مختلفة، لكنه يختلف حين يكون مع زبائن يهود «هذا من حيفا، لكنك تقولين إنه خبز فلسطيني، وهنا يبدأ التساؤل»، تجيبهم كيت: «أعلم أن حيفا ليست الآن تحت سيادة فلسطينية، لكن الشعب الفلسطيني موجود في كل العالم، لديهم أعمالهم ولديهم تجارتهم رغم أنهم فقدوا أرضهم ووطنهم».
جلب المنتجات الفلسطينية من فلسطين ليس أمراً سهلاً، كما توضح كيت: «أذكر منذ عدة سنوات أن التاجر الذي كنت أتعاون معه لإحضار البيرة، والذي كان في الدنمارك، واجه صعوبات مع الإسرائيليين، فمنعوه من إخراج البيرة خارج فلسطين، فهم يجعلون الأمور صعبة دوماً، يغلقون المخازن أحياناً أو يمنعون المنتجات من الخروج، وقد حدث أن اضطررت في فترة ما إلى حذف البيرة من القائمة»، لكن كيت أصرّت، فاستطاعت التواصل مع تاجر آخر مقيم في فرنسا، ليمدّها بالبيرة المصنوعة في فلسطين، وتمكنت من إعادة صنف «بيرة طيبة» إلى قائمة مطعمها.
تقول كيت: «أريد العودة إلى فلسطين، يمكنك أن تسألي أي أحد عمل في فلسطين، سيقول لك إن هذا المكان سيسكن قلبك، سيصبح شيئاً متداخلاً مع بشرتك، وهو ذلك النوع الذي حين يدخلك لا يمكن أن يغادرك، وأفكر أن أذهب في المستقبل مع عائلتي إلى فلسطين، أريد أن آخذ ابني ووالدي وزوجي إلى هناك، أحب أن يزور زوجي فلسطين لأني حدثته عنها كثيراً، وأتمنى لو يمكنني العودة إلى غزة، اشتقت للمقلوبة والمسخن». وتضيف: «أكثر ما حملته من فلسطين، الناس، فهم طيبون على الرغم من أنهم يمرون بصراعات كثيرة ومع ذلك، هم ودودون جداً وكرماء جداً، أعلم أن هذه القيم هي جزء من الثقافة العربية، لأني عشت في سوريا، ولاحظت ذلك كثيراً في سوريا، لكن في فلسطين مع أنهم يعيشون الصراع منذ أعوام طويلة، إلا أنهم يمتلكون صموداً غريباً ومدهشاً، أذكر بشكل جيد حس الفكاهة عند أهل غزة، هذا مدهش حقاً، كيف يتغلبون ويحافظون على حس الفكاهة، مع ما يعانونه يومياً، هذا أكثر ما أثّر بي وحملته معي من فلسطين، كان ذلك ملهماً لي ومحفزاً قوياً في حياتي، ثم الأشياء التي تعبر عن الثقافة والفولكلور، أيضاً أذكر موسم حصاد الزيتون، هذه الأشياء التي يقومون بها في القرى بشكل عائلي، لن تجديها في مجتمعات أخرى، إنهم دافئون جداً، هناك الكثير من الأجانب الذين يأتون إليهم، من سياسيين وصحافيين وعابري الحدود، ستعتقد بأن مرورهم بهذه الظروف سيجعلهم يستقبلونهم بملل واستياء، لكن على العكس، الاستقبال ودود وفيه ترحاب وكرم».