هي رسالة بالغة الوضوح والدقة، وجهتها المقاومة الفلسطينية على أجنحة عشرات الصواريخ التي استهدفت المستوطنات في جنوب إسرائيل. قالت المقاومة في رسالتها إنها على استعداد للرد بما يناسب حجم الاعتداءات. فكما قرر المجلس الوزاري المصغر الارتقاء في الضغط العسكري على قطاع غزة، بالحد الذي يأتي دون العملية العسكرية الواسعة، كان على المقاومة الارتقاء بالرد من دون «تحطيم الأواني»، وبعبارة أخرى: تجنب استهداف وسط إسرائيل، وبالأخص تل أبيب.
لم تكد إسرائيل تعلن قرارها رفع مستوى الإجراءات ضد غزة والتلويح برسالة تجنيد الاحتياط (دفع 1500 جندي) بهدف الإيحاء أنها على استعداد للتصعيد التدريجي إن تطلب الأمر، حتى أتى رد المقاومة سريعاً عبر إطلاق عشرات الصواريخ التي استهدفت عدداً من المستوطنات جنوب فلسطين المحتلة. هذا الرد لم يكن نتيجة قرار يهدف إلى التصعيد الابتدائي والدفع باتجاه مواجهة واسعة، بل رداً على قرار المجلس الوزاري المصغر «تعزيز الهجمات ضد غزة والاستدعاء الجزئي للاحتياط»، كما عبر ضابط عسكري رفيع المستوى.
حجم الرد الفلسطيني أتى طبقاً لمنسوب مدروس، خاصة لجهة المدى الذي بلغته الصواريخ، الأمر الذي سيكون حاضراً لدى صانع القرار في تل أبيب، في حال اتخاذه قراراً بالرد المضاد، هذا إن لم تكن إسرائيل تريد الذهاب نحو مواجهة شاملة، يبدو حتى الآن أنها حريصة على تجنبها. في ما يتعلق بتفاصيل الرد الفلسطيني، ذكرت تقارير عبرية أنه نتيجة صليات الصواريخ أطلقت صفارات الإنذار في عدد من المناطق منها عسقلان وأسدود ونتيفوت وكريات ملاخي، أما عن الصفارات التي انطلقت في منطقة المركز والقدس، فقالت إنها كانت من طريق الخطأ.
هذا المستوى من الرد تبلور بعدما حاولت إسرائيل حشر غزة بين خيار استمرار تلقي الضربات التصاعدية، وبين القبول بصيغة إسرائيلية للتفاهم. هذا التقدير الإسرائيلي يبدو أنه استند إلى قراءة مفادها أنه ليس من مصلحة المقاومة حشر إسرائيل برد تناسبي مع التصعيد الذي أقدم عليه جيش الاحتلال، لكن دفعة الصواريخ كشفت وجود تصميم لدى فصائل المقاومة بالرد التدرجي في مقابل الاعتداءات المتدرجة.
في كل الأحوال، أعاد رد المقاومة السريع الكرة إلى ملعب إسرائيل، ووضع قيادتها السياسية والأمنية أمام مروحة من الخيارات، منها استمرار تبادل الضربات ضمن السقف الحالي، أو ما يقاربه. وهو أمر له انعكاساته السلبية على قدرة الردع الإسرائيلي، وعلى الواقع الداخلي والشعبي، خاصة بعد الإخفاق في تحقيق النتائج الردعية.

يعكس التوجه الإسرائيلي التصعيدي، إخفاقا في التوصل إلى صيغة اتفاق


حاولت إسرائيل حشر
غزة بين استمرار تلقي الضربات، وبين صيغة إسرائيلية للتفاهم
الخيار الثاني هو رفع مستوى الاعتداءات الحالية في مسار تصاعدي يهدف إلى إخضاع غزة، لكن الرسالة الفلسطينية الصاروخية أظهرت أن لدى المقاومة القدرة على الرد التناسبي، وهذا كله يقود نحو مسار تصاعدي متبادل قد يدفع الطرفين إلى خيارات يحرصان حتى الآن على تجنبها. الخيار الثالث، العودة الى الاغتيالات، مع ما يعنيه من مستويات مرتبطة بطبيعة الأهداف وبالتالي طبيعة الردود عليها وإمكانية تدحرجها إلى مواجهة شاملة. على مستوى رابع، يبقى اتخاذ القيادة الإسرائيلية قراراً بخيارات عسكرية متطرفة، كشن حرب كبرى، وربما هذه هي أعلى درجة. برغم أن إسرائيل تملك المقومات المادية والعسكرية التي تمكنها من تنفيذه، فهي لا تزال تحرص على تجنبه، والخيار الرسمي حتى الآن استنفاد الوسائل من أجل الوصول إلى تهدئة متبادلة.
ويهدف التراجع الإسرائيلي المحدود إلى تلبية جزء من مطالب الطرف الفلسطيني، على الأقل، لكنه خيار مرتبط نهاية الأمر بطبيعة الطرح، وبالموقف الفلسطيني، وعلى افتراض وجود أرضية لمثل هذا الخيار، فإنه سيؤدي إلى اشتباك سياسي إسرائيلي داخلي، إذ سيوجه معسكر اليمين المتطرف سهامه نحو رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ويتهمه بأنه ضعيف ومتردد، وأضر قدرة الردع الإسرائيلية.
في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن تطورات الوضع الميداني مع غزة، بلغت مستوى من التعقيد جعل الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، يجدان نفسيهما أمام مجموعة خيارات ينطوي كل منها على أثمان. وعندما حاولت إسرائيل رفع منسوب اعتداءاتها لحشر المقاومة تمهيداً لإخضاعها، أعادت الأخيرة الكرة إلى الملعب الإسرائيلي، فبات عليهم الآن أن يبحثوا عن خيارات بديلة. كذلك يعكس التوجه الإسرائيلي التصعيدي، إخفاق القنوات السياسية في التوصل إلى صيغة اتفاق تحظى برضا الطرفين. أتى ذلك بالتزامن مع ارتقاء ضغوط معسكر اليمين الإسرائيلي في محاولة للدفع نحو خيارات عسكرية متطرفة، تمثل بقرار افيغدور ليبرمان تفكيك التحالف بين حزبي «إسرائيل بيتنا» و«الليكود».
القرارات التي اتخذتها القيادة السياسية والأمنية في تل أبيب، رغم أنها تعكس توجهاً إلى رفع مستوى الضغوط والتهويل، فإنها بقيت مسقوفة، بالرغبة عن الانجرار نحو عملية عسكرية واسعة، ولا يخفى أن استمرار الوضع الحالي وتفاقمه، دفع صانع القرار إلى محاولة اجتراح خيار يهدف إلى كسر الحلقة المفرغة، الناتجة من الرد والرد المضاد، وذلك انطلاقاً من أنه كلما طال زمن المعركة القائمة، فهذا يعني مزيداً من تقويض قدرة الردع الإسرائيلية، ومزيداً من الانكشاف الذي يجعلها تبدو أكثر تردداً وتخوفاً، ما سيجعل الفصائل في غزة أكثر جرأة واندفاعاً في توجيه الضربات المؤلمة. أيضاً، فإن استمرار إطلاق الصواريخ باتجاه مستوطنات الجنوب، سيؤدي إلى ارتفاع مستوى الضغط الشعبي والسياسي الداخلي على نتنياهو.
في هذا الإطار، نقل موقع «واللاه» العبري عن مسؤول رفيع في «حماس» قوله إن الحركة ترفض صيغة «هدوء مقابل هدوء»، وتطالب إلى جانب العودة إلى تفاهمات «عمود السحاب»، تحرير المعتقلين الذين جرى تحريرهم ضمن صفقة غلعاد شاليط وأعاد الجيش الإسرائيلي اعتقالهم خلال حملته الأخيرة في الضفة. ونفى المسؤول نفسه، وفق «واللاه»، أي علاقة لـ«حماس» باختطاف المستوطنين الثلاثة وقتلهم.
وكان الرد الصاروخي (الأخبار)، قد سبقته ضربات إسرائيلية فجر أمس أوقعت خسائر بشرية في غزة. وبعد سماح الرقابة العسكرية بالنشر، كشفت وسائل إعلامية عبرية أن «الجيش استهدف نفقاً يحتوي على مواد متفجرة كان معداً لتنفيذ هجوم ضد هدف عسكري تابع للجيش، فأدى تفجيره إلى قتل 7 ناشطين من حركة حماس».
في هذا السياق، قال مصدر عسكري إسرائيلي عبر موقع صحيفة «يديعوت أحرونوت»، إن «عناصر حماس لمست مواد متفجرة في النفق، ما أدى إلى انفجار هائل دمر النفق الذي كان على رأس سلم أولويات جيشنا»، لكنه لم يوضح طبيعة العملية التي نفذها الاحتلال ضد النفق عبر قصف جوي أو عملية خاصة، وفي كل الأحوال فإنّ حديث المصدر اعتراف إسرائيلي رسمي بالمسؤولية عن استشهاد العناصر السبعة من «حماس» بعد أن نفى الاحتلال مسؤوليته في صباح أمس.
أما عن الرشقة الصاروخية التي أطلقتها كتائب القسام أمس، فأعلنت الكتائب عبر موقعها الإلكتروني أنها أطلقت 35 قذيفة صاروخية استهدفت مناطق عديدة في النقب الغربي، وأيضاً وصل عدد منها، وفق شهود عيان إلى التجمع الاستيطاني «عتصيون» جنوب بيت لحم، ما يرفع إجمالي صواريخ أمس إلى نحو 80. كذلك أفاد شهود عيان بأنّ صفارات الإنذار سمعت في مستوطنات (كرمي تسور، أدورا، تيلم، شيقف) وعدد من المستوطنات الواقعة قرب جدار الفصل العنصري غرب مدينة الخليل.
على المستوى المعلن، أكدت حركة «حماس» أمس أن «المقاومة لن تسمح للمجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر «الكابينت» بفرض شروطه على الشعب الفلسطيني». وشدد المتحدث باسم الحركة، سامي أبو زهري، في تصريح صحافي على أن «شعبنا لن يستسلم لجرائمكم، والمقاومة لن تسمح لكم بفرض شروطكم... وستدفعون الثمن، والأيام بيننا».
وأضاف أبو زهري بعد إطلاق الصواريخ: «صواريخ القسام رد فعل طبيعي على الجرائم الإسرائيلية، لكن على الاحتلال أن يلتقط الرسالة جيداً»، مكملاً: «سنرد على جرائمكم، والقادم أعظم إذا لم تتوقفوا». واستطرد بالقول: «المقاومة الفلسطينية تأخذ التهديدات الإسرائيلية على محمل الجد وتستعد لأسوأ الاحتمالات، كما أن الاحتلال يستعد لأسوأ الاحتمالات جراء ما تخفيه المقاومة له إذا صعد عدوانه».
سياسياً، طالب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، إسرائيل، بوقف التصعيد وغاراتها على غزة فوراً. وذكرت وكالة «وفا» الرسمية أن عباس نبه إلى خطورة هذا التصعيد، داعياً المجتمع الدولي إلى «التدخل الفوري لوقف التصعيد الإسرائيلي الخطير الذي سيجر المنطقة إلى مزيد من الدمار»، ولفت إلى «أهمية الحفاظ على التهدئة التي تم التوصل إليها حفاظاً على الأرواح وتجنيب الأبرياء ويلات الحرب».
كذلك، نقلت الإذاعة العبرية العامة عن المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، جين بساكي، قولها إن «الولايات المتحدة تدين بشدة إطلاق القذائف الصاروخية على الأراضي الإسرائيلية». وأعربت بساكي، وفق الإذاعة، عن تأييد واشنطن «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». وسبق هذه الإدانة اتصال وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أمس هاتفياً بنتنياهو لبحث تفاقم الأوضاع الأمنية. وحث كيري، الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، على التحلي بضبط النفس.
وحتى كتابة التقرير، تواصلت الغارات الإسرائيلية على مناطق متفرقة من قطاع غزة بصورة مكثفة، لكن الاستهداف بقي محصوراً في مواقع المقاومة والأراضي الخالية، مع إعلان مصادر طبية وصول عدد من الإصابات إلى المستشفيات.
أما في الضفة والقدس المحتلتين، فتتواصل الاشتباكات بين الشبان وجنود الاحتلال، وقد وصلت الاشتباكات إلى حدود إلقاء قنابل غاز وصوت على خيمة العزاء التابعة لأهل الفتى محمد أبو خضير، كذلك أصيب عدد من الشبّان في عدة محاور من الخليل وبيت لحم.
في سياق آخر، ذكرت صحيفة «هآرتس» أن المعتقلين اليهود الذين نفذوا جريمة قتل الفتى المقدسي وحرقه «لا ينتمون إلى الشريحة التي تحظى باهتمام جهاز الأمن العام (الشاباك)، أي ليسوا من شباب التلال وأشباههم في هامش معسكر المستوطنين، بل من هامش المجتمع الحريدي».



ليبرمان يفجّر قنبلة سياسية

أرخت المواجهة القائمة مع قطاع غزة، بظلالها على الساحة السياسية الإسرائيلية. أمس تطور الخلاف بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ومعسكر اليمين عامة، لكنه أخذ ناحية خاصة لدى وزير الخارجية، أفيغدور ليبرمان، إلى درجة دفعت الأخير إلى إعلان تفكيك التكتل القائم مع حزب الليكود، وإعادة تشكيل كتلة إسرائيل بيتنا بصورة مستقلة. برغم أن انشقاق ليبرمان قد لا يكون مفاجئاً بذاته، لكن المبادرة إلى هذه الخطوة في ذروة الكباش الأمني مع غزة شكلت حدثاً درامياً، وخاصة أنه كان بإمكانه الانتظار حتى نهاية هذه الجولة من المواجهة. وبالتوازي مع السجال الحاد بين نتنياهو وليبرمان على طاولة الحكومة، تبرز حدة المنافسة التي يخوضها الأخير على تصدر اليمين، وهو ما يلزمه التمايز إما بالاتجاه إلى معسكر الوسط، وإما بإظهار مزيد من التطرف. وبحكم الخلفية الفكرية والسياسية لشخص مثل ليبرمان، كان الأكثر ملاءمة له أن يكون شعار الانشقاق ينطوي على اتهام لرئيس الوزراء بالاعتدال إزاء القضية الفلسطينية والسياسة الأمنية تحديداً.
في النهاية، حرص وزير الخارجية على أن لا يؤدي انشقاقه في هذه المرحلة إلى تفكيك الحكومة والذهاب نحو انتخابات مبكرة، وهذا أمر له حساباته لدى القوى السياسية الإسرائيلية، لكنه أعلن تفكيك القائمة الموحدة مع الليكود، وإعادة إقامة كتلة إسرائيل بيتنا (11 عضو كنيست)، تحت شعار المطالبة بشن هجوم عسكري واسع على غزة، والتعامل بشدة مع الاحتجاجات في الشارع العربي، وصولاً إلى بلورة «خط يميني أيديولوجي صارم» استعداداً للانتخابات المقبلة.