القاهرة | لم يكن إعلان الصندوق السيادي السعودي إطلاق «الشركة السعودية للاستثمارات» بهدف الاستثمار في المجالات الواعدة في مصر، مفاجئاً لكثيرين. ذلك أن الصندوق التابع للمملكة أبدى، منذ مدّة، رغبته في الاستحواذ على شركات في قطاعات البنية التحتية والعقارات والصحّة والزراعة والأدوية، في إطار خطّة خليجية لإنعاش الاقتصاد المصري الذي يعاني أزمة مالية خانقة. وتتنافس الصناديق السعودية والإماراتية والقطرية على شراء الحصص في تلك القطاعات الحيوية، وإن كانت الرياض وأبو ظبي أكثر استعجالاً من الدوحة؛ بالنظر إلى أن الأُوليَين لا تمانعان الاستحواذ على حصص غير حاكمة في الشركات التابعة للدولة، بينما الأخيرة تفضّل الاستحواذات الكاملة أو على الأقلّ الحصول على حصص كاملة.وحصل «صندوق الاستثمارات العامّة» السعودي، الأسبوع الماضي، على حصص أقلّية في 4 شركات حكومية مدرَجة في البورصة المصرية، هي شركة «أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية» بمتوسّط سعر يبلغ 29.1 جنيهاً للسهم، وشركة «مصر لإنتاج الأسمدة - موبكو» بمتوسّط سعر يقارب 124 جنيهاً للسهم، وشركة «الإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع» بمتوسّط سعر يُعادل 10.1 جنيهات للسهم، وشركة «إي فاينانس للاستثمارات المالية والرقمية» بمتوسّط 16.2 جنيهاً للسهم. وتُعدّ كلّ تلك الشركات رابحة؛ إذ تُحقّق أرباحاً بمليارات الجنيهات سنوياً، ما يضمن استعادة المبالغ المدفوعة في عمليات الاستحواذ في غضون ما بين عامَين وثلاثة أعوام، علماً أن هذه العمليات نُفّذت على أساس أسعار أعلى من أسعار الأسهم السوقية بنسبة تصل إلى 20%، في ما عُدّ في ظاهره «مَكرمة» لصالح الحكومة المصرية، فيما الواقع يقول إنه ليس إلّا محاولة لتخفيف حدّة الانتقادات، وخاصة أن أسعار الأسهم تأثّرت بـ«التراجعات» المتتالية للبورصة المصرية خلال الأسابيع الماضية، فضلاً عن ميزة تخفيض سعر الصرف في صفقات تُعتبر استثنائية للشركة السعودية، التي أدخلت الدولارات نقداً إلى خزانة الدولة المصرية.
وعلى رغم أن تفاصيل عمليات الاستحواذ تبْقى سرّية، خاصة مع الإعلان عنها عند التنفيذ فقط لتجنب أيّ اضطرابات في أسعار الأسهم، إلّا أن بعض المعلومات غير الرسمية تحدّثت عن وجود اشتراطات وُضعت من جانب الحكومة المصرية بشأن عملية الشراء، من بينها الاتفاق على توسيع هياكل ملكية الشركات، والسماح بإعادة شراء حصص البائعين في بعضها خلال فترة تُراوح بين عامين وخمسة أعوام. والظاهر أن الحكومة تستهدف من وراء ذلك - في حال ثبتت صحّته - ضمان استرداد أصولها في المستقبل القريب، علماً أن الاسترداد سيكون بأسعار مختلفة، ليس بسبب التخفيض الإضافي المرتقب في السنوات المقبلة لقيمة الجنيه، وإنّما أيضاً لأن الصناديق الخليجية ستحصل على العائد من التخارج. وتتباهى الحكومة المصرية بصافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي هي في الحقيقة مجرّد عمليات بيع لأصول الدولة؛ إذ بلغت هذه الاستثمارات في الربع الأول من العام الجاري 4.05 مليارات دولار لتكون الأعلى في السنوات الأربع الماضية، في حين خرج في تلك الفترة نحو 20 مليار دولار من السوق المصرية، وهي الأموال التي تسبّب خروجها بهزّة عنيفة للعملة المصرية لتنخفض قيمتها مجددّاً بنحو 20%، في وقت تتحدّث فيه التقارير الأجنبية عن تقييم العملة بأعلى من سعرها الحقيقي بنحو 10% في ظلّ توقّف عمليات الاستيراد وعدم توافُر العملة الصعبة، الأمر الذي أدّى إلى عودة السوق السوداء.
عمليات الاستحواذ باتت مصدر إزعاج لبعض الدوائر المقرَّبة من السلطة


وتبيع الحكومة أصول الدولة بأسعار زهيدة بسبب صعوبة الاقتراض، ولا سيما في ظلّ تأخُّر الاتفاق مع «صندوق النقد الدولي» على قرض جديد بقيمة 12 مليار دولار. وإذ تُبرّر صفقاتها الجديدة بحماية حقوق الأجيال القادمة، فإن الواقع يقول إن ما يجري ليس إلّا تسديداً لفاتورة الأخطاء الاقتصادية، التي تسبّبت بعجز في الموازنة، يتطلّب بيع أصول بقيمة 10 مليارات دولار، وفق خطّة الرئيس عبد الفتاح السيسي، من أجل تسديده، في ظلّ إحجام حكومات الخليج عن تقديم أيّ مِنح أو هِبات إضافية. والظاهر أن هذه الصفقات، التي تشكّل خطراً على الأمن القومي المصري على المديَين المتوسّط والبعيد، باتت مصدر إزعاج لبعض الدوائر المقرَّبة من السلطة، والتي أمست تحذّر من المُضيّ في تلك السياسة للخروج من الأزمة. لكنّ الحكومة تبدو متمسّكة بما تقوم به، وسط استعدادها لعمليات استحواذ إضافية لصالح الصندوق السيادي القطري خلال الأسابيع المقبلة، علماً أن محاولات جذب استثمارات آسيوية وأوروبية فشلت لأسباب متباينة.
ولا تقتصر محاولات إنقاذ الاقتصاد على بيع أصول الدولة، بل إن الحكومة تفكّر أيضاً في اللجوء إلى استصدار سندات دولية بفائدة مرتفعة، خاصة مع تزايد الضغوط المالية، واستنزاف الاحتياطي النقدي في توفير المستلزمات الأساسية، والنقص المستمرّ في العملة الصعبة، والذي دفع إلى إيقاف عمليات الاستيراد بالكامل، واضعاً شركات عديدة أمام شبح الإغلاق. لكنّ المفارقة أن تلك القيود لم تشمل بعض المشروعات الحكومية، وفي مقدّمتها المشروعات الخاصة بالعاصمة الإدارية وغيرها، والتي تُواصل القوّات المسلّحة تنفيذ عمليات الاستيراد الخاصة بها للانتهاء منها في موعدها، على رغم عدم تَوقّع مردود دسم من استخدامها، بما فيها مشروعات البنية التحتية التي تُدفع مئات ملايين اليوروات للشركات الألمانية لتنفيذها في زمن قياسي.