أعادت قطر وصْل خيوط تواصلها المباشر مع بعض الفصائل المسلّحة في الشمال السوري، في ما يبدو تمهيداً للعب دور أكبر على الأرض في المرحلة المقبلة، بما يتوافق مع الدور السياسي الذي تؤدّيه الدوحة في عرقلة الجهود الجارية لإعادة دمشق إلى مقعدها في «جامعة الدول العربية». ويأتي ذلك بعدما دخلت الإمارة الخليجية الصغيرة في خلاف مع تركيا منذ مطلع العام الحالي، مردّه قيام الأخيرة بمحاولة تحجيم دور «الإخوان المسلمين» في المعارضة. وعلى رغم ما تكتسبه الخطوات القطرية الأخيرة من طابع المزاحمة العلَنية لأنقرة، إلّا أن الأخيرة لا تبدو إلى الآن ممتعضةً من ذلك، إن لم تكن ترى فيه وسيلة للتخفُّف من أعبائها المالية في الشمال
في خطوة يمكن النظر إليها على أنها محاولة قطرية لإعادة مدّ اليد بشكل مباشر إلى الشمال السوري، دخلت الدوحة على خطّ الخلافات الدائرة حالياً بين حركة «أحرار الشام - القطاع الشرقي» المدعومة من «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة)، و«الفيلق الثالث» التابع لـ«الجيش الوطني»، المكوَّن من فصائل عدّة قامت أنقرة بهيكلتها، في ريف حلب الشمالي. وكان زعيم «تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، الذي يسيطر على إدلب، تمكَّن من فرْض نفسه ضابط أمن لشمال حلب، الخاضع لسيطرة «الجيش الوطني»، إثر توغُّل قوّاته في محيط عفرين دعماً لـ«أحرار الشام»، لتفرض الحركة شروطها وتستعيد مواقعها أمام أنظار الجيش التركي الذي وقف متفرِّجاً. وجاءت الاشتباكات الدامية بين الفصيلَين، والتي تَوسَّع نطاقها ليصل إلى محيط مدينة الباب، بعد شهور من تململ تركي من ارتفاع فاتورة الرواتب التي تدفعها أنقرة للفصائل المسلّحة في ريف حلب، وتعثُّر جهودها في تشكيل هيكلية مؤسّساتية تضْمن توحيد تلك الفصائل. وهو تعثُّر يرجع، في جانب منه، إلى محاولات الأخيرة المستمرّة فرْض نفسها والتزاحم في ما بينها على مدّ النفوذ ومحاولة استنساخ تجربة الجولاني، الذي لم تُخفِ تركيا إعجابها به لأسباب عديدة، أبرزها تَحكُّمه المطلق بإدلب، و«الاكتفاء الذاتي» الذي يحقّقه لنفسه عبر سيطرته على مفاصل الاقتصاد في مناطق سيطرته، الأمر الذي يوفّر على أنقرة جزءاً من المصاريف الكبيرة التي تدفعها بشكل شهري.
وحاولت تركيا، أكثر من مرّة، خلال العامَين الماضيَين، الضغط على فصائل ريف حلب عن طريق تأخير رواتب مقاتليها أو حتى تخفيضها، بهدف دفعهم إلى الانخراط في مشروع توحيد الفصائل، من دون أن تصل إلى نتيجة مقبولة تؤمِّن لها أوضاعاً أمنية مناسبة لإتمام مشاريعها السكنية لتوطين اللاجئين، في ظلّ الانفلات الأمني المتزايد، وعمليات الخطف والاغتيال التي لم تتوقّف. وعقب الاشتباكات الأخيرة بين «أحرار الشام» و«الفيلق الثالث»، وبعد أن تمكَّن الجولاني من إنهائها، قطعت تركيا تمويلها للفصيلَين، كنوع من العقاب لهما، وفي مسعًى منها لتخفيف الأعباء المالية عن كاهلها، في ظلّ الضغوط الاقتصادية المتزايدة عليها. والظاهر أن الدوحة أرادت استثمار هذه الفرصة أيضاً، مستفيدةً من علاقتها المتينة بـ«أحرار الشام» و«هيئة تحرير الشام» و«فيلق الشام» (التنظيم المدعوم من الإخوان المسلمين بشكل مباشر، والذي شرّع الأبواب أمام تحرير الشام للتوغّل في ريف حلب)، في محاولة مدّ نفوذها إلى جماعات أخرى.
الخطوة القطرية الجديدة تأتي بعد نحو أربعة أشهر على عملية هيكلة أجرتها تركيا لـ«الائتلاف» المعارض


وبحسب مصادر ميدانية معارضة تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن وفداً قطرياً أجرى لقاءات مع ممثّلين عن «الفرقة الثالثة» و«أحرار الشام»، بهدف حلّ الإشكال القائم بينهما ووضع حدّ للاقتتال، مقابل مغريات مالية كبيرة تضْمن استمرار صرْف رواتب شهرية لنحو 30 ألف مقاتل، من دون تأخير أو انقطاع، علماً أنه يَصعب التأكُّد من مدى دقّة هذا الرقم بسبب تشعّب الفصائل واختلاف أعدادها بشكل مستمرّ جرّاء عمليات الانشقاق والتكتّل المستمرّة، غير أن المؤكّد أن ما يفوق ثلثَي المقاتلين الذين سيتمّ تمويلهم بشكل مباشر يتبعون لـ «أحرار الشام». وأكدت المصادر أن الوساطة القطرية في طريقها إلى النجاح، بالاستفادة من الضغوط المالية الكبيرة التي يعيشها «الفيلق الثالث» على وجه التحديد، بعد أن حصلت «أحرار الشام» على دعم مالي من الجولاني تمكّنت من خلاله من دفْع رواتب المقاتلين، بالإضافة إلى مكافآت وتعويضات، وهي أموال لم تُخفِ المصادر شكّها في أن مصدرها الدوحة أيضاً. ورأت في الخطوة القطرية مزاحَمة غير مباشرة لتركيا، ومحاولة لاستعادة الدور الذي تخلّت عنه الأخيرة خلال الأعوام الماضية، حيث تَحوَّل الدعم المالي القطري إلى مشاريع يتمّ تنفيذها تحت إشراف وإدارة منظّمات تركية، من بينها «الهلال الأحمر التركي» و«إدارة الكوارث والطوارئ التركية - آفاد» (AFAD).
وتأتي الخطوة القطرية الجديدة بعد نحو أربعة أشهر على عملية هيكلة أجرتها تركيا لـ«الائتلاف» المعارض الذي يمثّل الواجهة السياسية للفصائل المعارِضة، حيث قامت بتخفيض تمثيل «الإخوان المسلمين»، والتخلُّص من شخصيات سياسية معروفة بتبعيّتها المطلَقة لأطراف دولية. واستهدفت أنقرة، من خلال ذلك، بسْط نفوذها المطلق على «الائتلاف»، وهو ما يبدو أنه لم يَرُق الدوحة، خصوصاً أن إعادة الهيكلة جاءت بعد أن تمكّنت تركيا من الإطاحة بمخطَّط قطري كان يقوده رئيس مجلس الوزراء السوري المنشقّ، رياض حجاب، لتوحيد المعارضة، حيث منعت تركيا، وفق تسريبات لمحاضر اجتماعات ضمّت ممثلين عن جهات أمنية تركية وقادة من «الائتلاف»، الأخيرين من الانخراط في مشروع حجاب الذي يهدف إلى العودة بالزمن إلى مراحل سابقة من تاريخ الحرب السورية تجاوزتها أنقرة، ليتحوّل المشروع لاحقاً إلى مجرّد ندوة حوارية لم تسفر عن أيّ نتائج.
ولا يبدو، حتى الآن، أن ثمّة قلقاً تركياً من محاولة قطر استعادة نفوذها الميداني في الشمال السوري، في ظلّ تَحكُّم أنقرة الميداني عبر وجود قواتها على الأرض وتبعيّة الفصائل المطلقة لها وعلى رأسها «تحرير الشام»، بالإضافة إلى استمرار تدفُّق الدعم المالي القطري للمشاريع التركية القائمة، ما يجعل من تمويل الدوحة بعض الفصائل مجرّد تخفيض للنفقات التركية في الوقت الحالي.