بغداد | تسعى الولايات المتحدة إلى تعويض فشلها العسكري في العراق على رغم سنوات الاحتلال الطويلة، بنجاح اقتصادي يجلب هذا البلد إلى حظيرتها، ويضعه في صُلب تحالف تريد إقامته في المنطقة، في إطار عملية ترتيب نجمت عن فشلها في حرب أوكرانيا. ويتجلّى ذلك بوضوح في اشتغالها على مشروع الربْط الكهربائي بين العراق ودول «مجلس التعاون الخليجي»، والذي بدا الرئيس الأميركي، جو بايدن، مهتمّاً بتفاصيله أكثر من اهتمامه بوضع الكهرباء في أيّ ولاية أميركية، بما فيها تكساس التي انهارت فيها شبكة الكهرباء خلال الشتاء الماضي، ما أدّى إلى موت كثيرين من البرد
يكفي أن يكون اتّفاق الربط الكهربائي بين العراق ودول الخليج، واحداً من «الإنجازات» القليلة لزيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى جدة، للدلالة على الوظيفة السياسية للمشروع، الذي يهدف إلى ربط العراق بتحالف مناهض لإيران، وصديق لإسرائيل، ولو كهربائياً، إن لم يكن ممكناً أكثر من ذلك في المرحلة الحالية. «الحلّ الأميركي» المفترَض لأزمة الكهرباء العراقية المستعصية، ليس تكفيراً عن ذنبِ تسبُّب الاحتلال نفسه بتلك الأزمة عن طريق منْع الاستثمار في معامل الكهرباء طيلة سنوات، على رغم الوفرة النفطية للعراق، وإنّما هو مسعى لاستبدال الطاقة والغاز الإيرانيَين اللذين جاءا ليوفّرا حلّاً، ولو جزئياً، حين أُرغمت واشنطن على منْح بغداد استثناءً من العقوبات الأميركية على طهران، بما يتيح للثانية استجرار الطاقة من الأخيرة وشراء الغاز منها. ولم يكن بايدن، في الواقع، بحاجة إلى الضغط على أحد لتحقيق متطلّبات «الحلّ» المذكور؛ فالمصلحة الأميركية هنا تلتقي مع المصلحتَين السعودية والخليجية، إذ تريد المملكة أيضاً الاستثمار في علاقتها بالعراق، وهو ما تدْأب على فعله منذ وصول مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الوزراء في نهاية عام 2019، بدليل منْحها الرَجل ميزة رعاية التفاوض بينها وبين إيران، كما والرهان على أن لا يكون في صفّ الأخيرة، إذا ما تدهورت العلاقة بين الجانبَين، لسبب من الأسباب الكثيرة المتّصلة بالملفّات العالقة بينهما. وفي هذا السياق تحديداً، جاءت دعوة الكاظمي، في الأصل، للمشاركة في قمة جدة.
تقنياً، سيبدأ تنفيذ اتّفاق الربط الذي وُقّع بين السعودية والعراق على هامش قمة جدة، ليصل شبكة الربط الخليجي عبر محطّة في الكويت، بمحطّة الفاو التابعة لشبكة كهرباء جنوب العراق، في آب المقبل، على أن يتمّ الانتهاء من المشروع خلال 24 شهراً من تاريخ توقيع الاتفاق، وفق ما تنْقل الصحف السعودية عن الرئيس التنفيذي لـ«هيئة الربط الخليجي»، أحمد الإبراهيم. وسيتمّ تزويد العراق بـ500 ميغاواط، إلّا أن قدرة الخطّ تبلغ 1800 ميغاواط، ما يعني إمكانية الزيادة عند الطلب. ويقول الخبير الاقتصادي العراقي، نزار حيدر، لـ«الأخبار»، إن «المشروع ليس جديداً، لكن يبدو لي أن هناك إرادة سياسية اليوم لتنفيذه، وهذا حقيقة لا علاقة له بالطاقة الكهربائية التي يحصل عليها العراق من الجمهورية الإسلامية في إيران، بل بالغاز الذي يحرقه العراق للأسف الشديد ولا يستفيد منه، ولذلك اضطرّ إلى أن يشتري الغاز والكهرباء من جارته الشرقية». ويَلفت حيدر إلى أن «الكاظمي مصمِّم على الاستفادة من الغاز الذي يتبدّد في البصرة وغير البصرة. طبعاً إذا تَحقّق هذا، فبالتأكيد سوف يزيد من الإنتاج الكهربائي ويقلّل من الاعتماد على طهران».
إقحام الصراعات السياسية في مشاريع الكهرباء وصْفة لاستمرار الفشل


وعلى رغم الصبغة السياسية لمشروع الربط، إلّا أنه بالنسبة إلى السعودية والخليج، له أهداف استثمارية أيضاً، تتعلّق بتحسين كفاءة استغلال موارد الطاقة الهائلة لدى دول المنطقة. وفي هذا الإطار، يُشير الخبير المالي والاقتصادي، صفوان قصي، في تصريح إلى «الأخبار»، إلى أن «مجلس التعاون الخليجي تبنّى استراتيجية التنويع الاقتصادي منذ نشأته، والعراق يسير في الاتّجاه نفسه، لكن دول الخليج تَقدّمت على العراق من حيث البُنى التحتية والاستثمار في الموارد البشرية، وستدعم استراتيجية الالتقاء بين مصالحهما عملية الانفتاح الاقتصادي العراقي». ويُضيف أن «المنظومة الاقتصادية لهذه المنطقة هي منظومة دولارية بامتياز، والولايات المتحدة الأميركية تسعى إلى الوصول إلى أسواق الشرق من خلال الربط مع اقتصادات هذه المنطقة»، معتبراً أن «مصلحة العراق تكمن في أن يكون نقطة توازن في المصالح بين دول الشرق ودول الاتحاد الأوروبي وأفريقيا، لأنه يمتلك حدوداً تجعل منه نافذة لعبور السلع من الشرق باتجاه السعودية، وكذلك قارة أفريقيا من خلال مصر».
ويرى قصي أن «عملية الربط الكهربائي ستساعد في إقامة صناعة عراقية على المدى القصير»، متابعاً أنه «من الممكن أن نكتفي بعملية نقل الطاقة الكهربائية، لكن في نظري هناك استراتيجية تدعم عملية ربط إنتاج قارة أوروبا بقارة آسيا، خاصة مع التغيّرات المناخية، حيث يمكن توجيه الفائض من إنتاج دول الخليج نحو الاتحاد الأوروبي وبالعكس، وذلك سيساهم في أن تكون هناك موارد جديدة للاقتصاد العراقي من خلال عبور الطاقة الكهربائية». ويَلفت قصي إلى أن «العراق يتطلّع إلى أن يكون هناك معدّل ناتج محلّي إجمالي بمستوى 500 مليار دولار، ونحن نحتاج إلى الطاقة والغاز الإيرانيَين خلال السنتَين أو الثلاث سنوات القادمة، ولذا فإن العراق سيستمرّ في عملية استيراد هذه الطاقة، لكن هناك محاولة لاستثمار طاقة غاز المنصورية في ديالى، وكذلك شركة توتال لديها عقود لاستثمار غاز الجنوب في توليد الكهرباء، وعندما تنتهي هذه العقود سيكون هناك بديل للغاز الإيراني والغاز العراقي».
بالنتيجة، من الطبيعي أن يسعى الأميركيون والخليجيون وحلفاؤهم في العراق، إلى تقديم صورة ورديّة لخُطط الربط الكهربائي، لكن إقحام السياسة في هكذا مشاريع، ولا سيما في ظلّ الصراعات التي يشهدها هذا البلد، عادةً ما يكون وصْفة للفشل. والدليل ما حدث في العراق نفسه، حين مَنع الاحتلال، والفساد الذي عاش في ظلّه، الاستثمار في قطاع الكهرباء، حتى تَحقّقت عجيبة إيصال بلد عائم على احتياطات النفط إلى العتمة الشاملة.