يبتلع الاستعمار الصهيوني ومخطّطاته المستمرّة مدينة القدس منذ احتلالها. تسعى إسرائيل في السيطرة على المدينة من خلال إعادة تخطيطها وتشكيلها بما يتناسب ومصالحها. واحد من المخطّطات الهيكلية التي أصدرتها بلدية الاحتلال في القدس أخيراً، هو ما سمّته مخطّط «مركز المدينة شرق». أُعلن عن المخطّط لأول مرة في شهر تشرين الأوّل من عام 2020، وتنفّذه بلدية الاحتلال في القدس وشركة «عدن» (eden) من خلال شركة «مورياه لتطوير القدس»، التابعة للبلدية وذراعها الإنشائية الرئيسية. يسمّى المخطّط عبرياً بـ«معر مزراح»، وهي الأحرف الأولى لتسمية «المركز التجاري الرئيسي للقدس الشرقية»، ويدخل ضمن إطاره العام 688 دونماً في منطقة تعدّ العصب التجاري والاقتصادي للمقدسيّين. تضمّ المنطقة شوارع وأحياء محيط البلدة القديمة، إذ يبدأ من حيّ المصرارة جنوب البلدة القديمة، على الشارع رقم واحد، مروراً بشوارع السلطان سليمان وصلاح الدين والزهراء والأصفهاني والرشيد وأجزاء من حيّ وادي الجوز، وصولاً إلى فندق «الأميركان كولوني» وشارع عثمان بن عفان في حيّ الشيخ جراح شمال البلدة القديمة.

يبلغ عدد المباني المشمولة بالمخطط 146 مبنى، تتوزّع ملكيتها ما بين أملاك خاصّة وأملاك وقفية وأملاك كنسية. حسب المخطّط، تدخل هذه المباني ضمن عدّة تصنيفات: مباني قد تخضع للمنفعة العامّة، أي تُصبح تحت سيطرة الحكومة، من ضمن هذه المباني جامع سعد وسعيد، جامع الشيخ جرّاح، مدرسة الشميدت، ومبانٍ أخرى. وستُدرج المنشآت التي بنيت قبل عام 1967، وهي حوالى 140 مبنى، كمبانٍ «تاريخية» وتدخل ضمن قانون «الحفظ». يعرقل هذا القانون المباني المدرجة ضمنه من التطوير والتوسّع ويحدّ من قدرة المالك على إحداث أي تغييرات في المبنى بما يلبّي حاجته.

خلفية عن التخطيط في المدينة
وفقاً لدراسة نشرها «معهد القُدس لأبحاث السياسات» الإسرائيلي، عام 2020، أُدرج فيها أهمّ المخطّطات والمشاريع في السنوات الأخيرة بالنسبة للشق الشرقيّ في القدس الذي احتلّ عام 1967، أولت فيه بلدية الاحتلال اهتماماً خاصّاً بالتخطيط الحضري والمواصلات وما سمّته «تحسين خدمة المواطن ونوعية الحياة». اعتُبرت هذه المجالات الأكثر إلحاحاً لاستهدافها عبر التخطيط ووضع مشاريع ملائمة لتطويرها، ويرتبط «التطوير» المعدّ في هذه المجالات بعلاقات القوّة التي يتحدّث عنها الباحث راسم خمايسي؛ أي أن من يخطّط هو بالضرورة صاحب القوّة والسيطرة ويُخطّط وفقاً لأهدافه.
الاهتمام بالتطوير وإقرار ذلك في خطّة أدرجتها حكومة الاحتلال، 3790 (الخطة الخمسية) عام 2018، يأتي ضمن سياق استكمال مشروع السيادة والاستيطان. وحسب الدراسة، فإن مسألة تسوية الأراضي في شرقيّ القدس هي أولويّة بالنسبة إلى المؤسسة الصهيونية، خصوصاً منذ عام 2018، علماً أن ما يزيد عن 60% من الأراضي في شرقيّ القدس غير مسجّلة، أي أنّها ستصبح محلّ استهداف، وتسوية الأراضي متعلّقة أيضاً بتطوير المدينة من الناحية الاقتصاديّة والتوظيف. إذ «تبلغ المساحة الإجمالية لخطط التوظيف بأحياء المدينة الشرقية حوالى 812 ألف متر مربع. هذه المنطقة هي إضافة حوالى 33% إلى المساحة الحالية، ولكن فقط على افتراض أنها ستستخدم بالكامل، وهو ما لا يحدث بالفعل. حيثُ أننا نرى أن إجمالي المساحة المستخدمة حالياً، ما يقرب من 110 آلاف متر مربع».

السيطرة الديموغرافية
يدّعي مخطط «مركز المدينة شرق» أنه يهدف إلى التطوير والتنمية التجارية، حيث جاء في التوصيف، الذي وضعته البلدية للمخطط، أنه «يقترح إنشاءات جديدة، والسماح بالإضافة إلى المباني القائمة بما يتناسب مع التصميم الجديد الذي يطرحه المخطط».
من ناحية سكنية، يسمح المخطط ببناء 76 وحدة سكنية فقط، مع تحديد عدد الطبقات على ألّا يزيد عن خمس طبقات، في حين أنه -تقنياً- لا يوجد ما يمنع من إضافة المزيد من الطبقات والمباني العمودية، إذ تسمح إسرائيل أخيراً بإعطاء رخص لبناء المزيد من الطبقات في أطراف القدس، مثل بيت حنينا، كما أنها لا تكفّ عن بناء المنشآت ذات الطبقات العالية في غربيّ المدينة المحتلّة.
كذلك، يمنع المخطّط البناء بمساحة 75 متراً من سور البلدة القديمة بالقدس، وبالنتيجة تقليص مساحة نسبة البناء، عدا عن كونه يمنع تطوير وتوسيع أي مبنى قائم سابقاً بحجّة أنه خاضع للحفظ، كما أسلفنا. ونظراً إلى أهمية المنطقة التي يشملها المخطط، إذ تعتبر مركز المدينة وعصبها التجاري والسكني، فإنّ 76 وحدة سكنية غير كافية ولا تراعي الاحتياجات السكنية للنموّ السكاني. خاصّة أن المنطقة تخدم، إضافةً إلى سكّانها، المقدسيين غير القاطنين فيها. ومن ناحية تنمية تجارية، يتطلّب التطوير التجاري محفّزاً سكنياً لا يشمله المخطّط.
يمنع المخطّط البناء بمساحة 75 متراً من سور البلدة القديمة وبالنتيجة تقليص مساحة نسبة البناء عدا عن كونه يمنع تطوير وتوسيع أي مبنى قائم


كما ورد في تعريف البلدية للمخطط أنه يقترح شقّ شارعيْن جدد، أحدهما في شارع صلاح الدين شمال معهد أولبرايت. وشارع صلاح الدين، أحد الشوارع التجارية الهامّة التي يمرّ بها المخطط. وبحسب رئيس لجنة التجار في الشارع، حجازي الرشق، فإن المخطط يؤثر على الحركة التجارية العربية في الشوارع التي تعد الأكثر مركزيّة في المدينة، فشارع صلاح الدين، على سبيل المثال، يقع فيه 175 محلاً ومكتباً خدماتياً و4 فنادق ومعالم أخرى مهمّة كالمحكمة الشرعية والمقرّ العام الرئيسي لشركة كهرباء القدس، جزء من هذه أملاك قد يتم تصنيفها للمنفعة العامّة، بالتالي تصبح ضمن سيطرة الاحتلال، ما يشكّل خطورة على المدى الأبعد من تكييف هذه المباني لأغراض يحدّدها الاحتلال.
ويقول حجازي إنّ هذا المخطط، الذي تدّعي من خلاله بلدية الاحتلال أنّها تريد تنشيط الحركة التجارية في شرق القدس، يتجاهل أحد أبرز المطالب التخطيطية التي يحتاجها أهل القدس في مدينتهم، ألا وهو موضوع البنية التحتية الخاصة بمواقف السيارات.
تُفضي مصلحة الاحتلال إلى تقليل الوجود الديموغرافي الفلسطيني. وبالنسبة إلى السياسي والحقوقي يوسف جبارين، فإن التخطيط الذي يجري في القدس حالياً قد بني على الاستراتيجيات الجيوسياسية التي تهدف إلى السيطرة الديموغرافية وتوسيع سلطات المدينة عبر مصادرة أراضي الفلسطينيين واستثنائهم من أي تخطيط استراتيجي للمدينة.

الاعتراضات
قدّمت «مؤسسة القدس للمساعدة القانونية» (JLAC) اعتراضاً للمحكمة المركزية أساسه أن المخطط نُشر بدون ترجمة، ثمّ جمّدت المحكمة المخطط مدّة شهرين حتى قُدّمت الترجمة. أودعته «اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء»، وهي الجهة المسؤولة عن إصدار المخططات الهيكلية في القدس، للاعتراضات وأعطي موعد لتقديمها حتى 21/1/2021. بالتوازي، قدّم المحامي غيّاث ناصر، عن طريق المجلس النرويجي للاجئين (NRC)، اعتراضاً للمحكمة المركزية ضدّ المخطط ينصّ على عدم قانونيّته لعدم استشارة الجمهور وعدم تسليم إعلامات رسمية لملّاك المنطقة التي يمرّ فيها، ويتجاوز عددهم 500 شخص.
وجزء آخر من الاعتراضات التي قدّمتها «JLAC» مع «المركز العربي للتخطيط البديل»، تشمل تحديداً اعتراضات من المدارس التي تقع ضمن المخطط، إذ يمنع المخطّط هذه المباني من التوسّع والحصول على تراخيص البناء، إذ إنها خاضعة «للحفظ»، منها مدارس: الفتاة اللاجئة، الفتاة الشاملة، الشابّات المسلمات، ذكور إيليا، ذكور الملك حسن الثاني ومدرسة روّاد المعرفة، حسب رامي صالح - المحامي في «مؤسسة القدس للمساعدة القانونية».
وكانت المحكمة قد رفعت التجميد على الإجراءات المتعلقة بالمخطط، وحددت موعداً نهائياً للاعتراض حتى تاريخ 29 تموز، ثمّ أصدرت المحكمة العليا قراراً بتمديد موعد الاعتراضات وفقاً للمحامي غيّاث ناصر. وكان آخر موعد قدّمت فيه الاعتراضات هو 14 أيلول، واللجنة اللوائية حالياً تدرس الاعتراضات التي تم تقديمها.
كما قدّمت المؤسسة الإسرائيلية «مخطّطون من أجل حقوق التخطيط» (بمكوم) اعتراضاً ركّز بالأساس على الجانب السكني الذي لا يلبّي المخطط احتياجاته، كما ورد في الاعتراض أن المخطّط يتجاهل جانباً مهماً من التخطيط الحضري، وهو المواصلات، إذ لم يشمل فحصاً كافياً وتقييماً لهذه الجزئية.

تكامل المخططات
تتشابك المخططات الاستيطانية التي يرسمها الاحتلال في القدس، فمشروع «وادي سيلكون»، الهادف إلى إزالة المنطقة الصناعية في وادي الجوز وتحويلها إلى منطقة شركات «هايتك»، بحجّة تطويرها وتحسين مظهرها، خاصّةً لكونها منطقة مهمّة جغرافياً لوقوعها في مركز المدينة، يدخل ضمن المنطقة التي يشملها مخطط «مركز المدينة شرق»، ويقع ضمنه. وكلاهما يغذّيان مكوّنات مخطط «القدس 2050» الذي يراهن على إقامة بنية اجتماعية سكّانية جديدة للقدس تغذّيها الكيانات والمنشآت التجارية والسياحية والبنية التحتية.
كما يتقاطع مخطط «مركز المدينة شرق» مع مخطّط «القدس الموحّدة 2000» الذي يشمل إقامة مركزين تجاريين للقدس، أحدهما في الشق الغربي على امتداد شارع يافا بطول كيلومترين، والثاني في الشقّ الشرقي على امتداد شارع صلاح الدين بطول نصف كلم.
إن تركيز الاحتلال على التخطيط الحضري في القدس يدلّ على مركزية هذا الجانب في السيطرة على المدينة، إذ جاء على لسان رئيس البلديّة، العام الماضي، موشيه ليون، أنه «إلى جانب النقل والتعليم والثقافة والتوظيف، تم تعزيز مجال التجديد الحضري بشكل كبير في جميع أنحاء المدينة، وكذلك البنية التحتية، ولا شك أنه في غضون سنوات قليلة، عندما تكون هذه المخططات مرئية للجميع، ستصبح القدس المدينة الرائدة في إسرائيل».
ولا يمكن نزع الرابط والتأثير بين الفكر التخطيطي الصهيوني المرتبط بمدينة القدس، بمكانتها التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والارتباط الوجودي للفلسطينيين فيها، وسعيه إلى محو هذا الوجود فيها شكلاً ومضموناً. ويظهر مخطط «مركز المدينة» كانعكاس لتوظيف إسرائيل التخطيط الحضري في تحقيق رؤيتها للسيطرة على السكان من خلال السيطرة على المباني الموجودة في القدس وتقليل الوجود الفلسطيني في مركز المدينة.