يقع منهاج التعليم في القدس المحتلة، السيطرة عليه، ضبطه، وإدارته، والتحكّم فيه، في صلب الاهتمام الإسرائيلي. طبقاً للباحث أحمد سعدي، يُعتبر «أسرُ المواطنين فكرياً الأسلوب المفضل من أجل السيطرة عليهم. وهو أسلوبٌ أكثر كفايةً وديمومةً ونجاعةً. ومن المستبعد أن يثير قدراً كبيراً من المقاومة» (من كتابه «الرقابة الشاملة»، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020).لم ينشأ الاهتمام الإسرائيلي حديثاً، أو في السنوات الأخيرة التي تكشّفت فيها مساعي سلطات الاحتلال إلى فرض المنهاج الدراسي الإسرائيلي على المدارس الفلسطينية في الشطر الشرقي من القدس. الأمر عائد إلى العام الذي احتل فيه شرق المدينة، 1967. في تلك السنة، فرض العدو منهاجه التعليمي على المدارس الحكومية التي كانت لا تزال تدرّس المنهاج الأردني. غير أن الأمر جوبه برفضٍ شديد من المقدسيين، قاطعوا المنهاج بإشراف وتوجيه من «لجنة المُعلمين السريّة»، قادها حسني الأشهب ومجموعة من المعلمين الفلسطينيين، حيث اعتمد هؤلاء تدريس المنهاج الأردني للطلبة في مدارس بيتية، وفي خمس مدارس عُمل على ترخيصها.
بعد أعوام قليلة من المقاومة والرفض المستمر، خلص الاحتلال إلى فشله في إجبار المقدسيّين على دراسة مناهجه، وعملياً تمثّل ذلك في عودة جميع المدارس على اختلاف أنواعها (حكومية، خاصة، وقفية،...) إلى تدريس المنهاج الأردني، منتصف السبعينيات. منذ ذلك الحين، وصولاً إلى توقيع «اتفاق أوسلو»، ظلّ طلبة القدس يدرسون المنهاج الأردني. وبعد إعداد السلطة الفلسطينية المنهاج الدراسي الخاص بها، اتساقاً مع ما نص عليه الاتفاق بأن التعليم يجب أن يهدف إلى «السلام» وإلى وقف «التحريض»، انضمت مدارس القدس، بما فيها الحكومية والخاضعة لإشراف بلدية الاحتلال، إلى دراسة المنهاج الفلسطيني منذ عام 2000. مع ذلك، لم ينج الأخير من محاولات التخريب والتأثير الإسرائيلية؛ انشغلت مراكز بحثية إسرائيلية خلال السنوات الماضية في دراسة محتويات هذه المناهج ورفع توصيات للمنظمات الدولية والمانحين بوقف تمويل السلطة. وفي مقدمة هذه المراكز «معهد مراقبة السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسي» (IMPACT-SE)، المعروف سابقاً بـ«مركز رصد تأثير السلام» (CMIP)، وهو ينهمك في دراسة المناهج التعليمية في الشرق الأوسط وأفريقيا، خصوصاً في الدول التي تصنفها إسرائيل عدوّة، ويتأكد من مطابقة محتواها لـ«معايير السلام» التي تحدّدها تل أبيب.
وعلى خلفية هذه الدراسات، التي يُعد بعضها في مراكز بحثيّة إسرائيليّة، وبعضها الآخر في مراكز عالميّة، عقدت «لجنة التربية والثقافة والرياضة» الإسرائيلية في الكنيست جلسات عدّة للتباحث في محتوى المنهاج الفلسطيني ومناقشة فحواه، قبل أن تخلص إلى وجوب حذف بعض المضامين «المحرضة على الإرهاب»، و«المعادية للسامية»، وتلك التي تشدّد على الهوية الفلسطينية المقاومة تحديداً. وبناء على هذه الخلاصة، قرّر قسم مديرية التعليم العربي في بلدية الاحتلال بالقدس، طبقاً لوثائق حصلت عليها جمعية «عير عميم» و«حقوق الإنسان في إسرائيل»، توكيل «طرف خارجي خاص» مهمّته فحص وحذف مضامين المنهاج الفلسطيني والرقابة عليها، والتأكد، أوّلاً وقبل كل شيء، من حرمان جيل فلسطيني كامل من حقه في التعرّف على هويته وتاريخه وحضارته.
51% من مدارس القدس باتت تتبنّى المنهاج الإسرائيلي


في مسح أجراه رئيس لجنة أولياء الأمور في سلوان، فارس خالص، للمنهاج الذي أشرفت «الجهة الخارجية» على تخريبه، قبل توزيعه على مدارس القدس، تبيّن مثلاً أنه شطبت أجزاء من النصوص التي تتطرّق إلى صلاح الدين الأيوبي قائد معركة حطين ضد الصليبيين. وأظهر المسح أيضاً أنه جرت عملية حذف شاملة للرواية التاريخية الفلسطينية، عبر استهداف مباشر للنصوص والصور التي تتصل بالهوية القومية للطلبة الفلسطينيين، ومن ضمنها رموز مثل العلم الفلسطيني، جندي فلسطيني، قبة الصخرة، الانتفاضات الشعبية، شروح نصوص قرآنية تضمنت مثلاً بلاد الشام (حذفت بلاد الشام، سوريا، فلسطين، الأردن)، أبيات شعرية تتطرق إلى العودة إلى الوطن، كما جرى تغيير أرقام آيات قرآنية... وغيرها. فضلاً عن حذف مقاطع كان وجودها ضرورياً للإجابة عن أسئلة في كرّاسات التمارين!
وبالرغم من أن مساعي الاحتلال لم تنجح كما كان مأمولاً، بسبب الرفض المقدسي، تابعت السلطات الإسرائيلية مخططها وصولاً إلى محاولات فرض المنهاج الدراسي الإسرائيلي، وتحديداً بين عامَي 2013-2014، إذ أعلنت وزارة المعارف الإسرائيلية، انطلاقاً من سلطتها وموقعها كقوة مسيطرة، عن خطة تجريبية تهدف إلى دفع المدارس في شرق القدس إلى تبني منهاجها مستغلة أزمتها المالية، وواقعها المتهالك خصوصاً على مستوى الصفوف والمختبرات والملاعب. وهكذا باتت تشترط أن يكون في مدرسة ما صف يدرس المنهاج الإسرائيلي لكي تستجيب لمنح المدرسة ميزانيات محددة، أو حتى لتمنحها ترخيصاً.
في دراسة صدرت في أيار الماضي عن مركز «مدى الكرمل» في حيفا، يتضح أن ولاية نفتالي بينت وزيراً لـ«التربية والتعليم الإسرائيلية»، امتدت بين عامَي 2015-2019، كانت مرحلة حاسمة على مستوى فرض الوزارة نفسها كمرجعية وحيدة وموجهة للعملية التعليمية التي تضع الرؤية الفلسفية والسياسات التربوية بالتساوق مع الرؤية الصهيونية، وقد تجلى ذلك في قطع الصلة مع المرجعية الفلسطينية عبر إغلاق مكتب مديرية التربية والتعليم الفلسطيني. طبقاً للدراسة، فإن سلطات الاحتلال استغلت المشكلات والأزمات الكثيرة التي يعاني منها القطاع، وواقع البنية التحتية المتهالكة للأبنية، والنقص الحاد في الكادر التعليمي، لتطرح نفسها كبديل من طريق المدارس التي انساقت لتبني المنهاج الإسرائيلي، أو من خلال إنشاء مدارس وصفوف جديدة تستوعب التلامذة من رياض الأطفال بعمر ثلاث سنوات. وتشير في هذا الإطار، إلى أن هؤلاء الأطفال يُعلّمون أناشيد عبرية، ومضامين ذات علاقة بالمكوّن الصهيوني.
وعملياً، فإن مرحلة بينت كانت علامة فارقة، طبّق فيها الأخير مقولته: «لن تستثمر وزارة التعليم في المدارس بالقدس الشرقية إلا إذا تبنت المنهاج الإسرائيلي»، وشهدت ولايته، ومن بعدها ولاية جفعات شاشا -بيطون، أثناء ولايته كرئيس للوزراء، تضاعفاً لأعداد الطلبة الذين يدرسون «البجروت» (الثانوية العامة الإسرائيلية)، وزيادة في عدد الدارسين في الجامعات الإسرائيلية؛ إذ إن أحد أوجه المخطط العام هو دمج المقدسيين بالسوق الإسرائيلية.
والملفت، طبقاً للدراسة، هو أن سلطات الاحتلال استغلّت اتساع رقعة المدارس التي تتبنى منهاجها، لتفعيل برامج لا منهجية بعد الصفوف. وكان الهدف من ذلك هو منع الطلبة المقدسيين من الالتحاق بالتظاهرات والاحتجاجات؛ إذ نُفذت هذه البرامج في 15 مدرسة كان عدد كبير من طلابها قد اعتقل سابقاً بتهم إلقاء الحجارة. وكلّف المشروع حوالى مليون شيكل.
إلى ذلك، تشير معطيات، صدرت في شباط الماضي عن وزارة القدس والتراث الإسرائيلية، إلى أن 51% من مدارس القدس باتت تتبنى المنهاج الإسرائيلي، وتعلّم اللغة العبرية، والتاناخ (الدين اليهودي)، والمدنيات (التربية الوطنية الصهيونية). وأنه خلال السنوات الأربع الأخيرة فتحت ست مدارس جديدة بالقدس، و65 روضة أطفال، واستُؤجرت تسعة أبنية جديدة لصالح فتح مدارس جديدة.
في المحصلة، يتعامل العدو مع تنشئة المقدسيين، تربيتهم وتعليمهم، انطلاقاً من كونه جزءاً من الرؤية الاستراتيجية العامة لتهويد المدينة، وهو يفعل ذلك من طريق جهاز التعليم الذي بات أداة مُؤدلجة هدفها خلق جيل فلسطيني مهشّم الهوية. فهل سينجو المقدسيون من هذا الخراب؟