منذ النكبة الفلسطينية عام 1948، والشعب الفلسطيني يعيش واقع الصمود والحفاظ على وجوده، في مواجهة مخططات التهويد التي تقوم على ركيزتين أساسيتين؛ الاقتلاع والتهجير من جهة، والإحلال اليهودي من جهة أخرى. وقد عايش الشعب الفلسطيني، منذ النكبة، هذا الواقع، واختبره في كل الأراضي المحتلة من فلسطين. لكن هذه المعادلة الاحتلالية الظالمة، كان لها الوقع الأشد على أهل مدينة القدس. منذ قيام دولة الاحتلال، وأهالي القدس في صراع دائم ويومي، لمواجهة مخططات التهويد لمدينتهم. القدس، العاصمة المفترضة للدولة الفلسطينية المنتظرة، تكتسي أهمية رمزية وقدسية كبرى، لأنها تمثّل المكان الديني المقدس للفلسطينيين وعموم المسلمين، وتمثّل أيضاً العاصمة السياسية، إضافة إلى كونها مدينة فلسطينية. وأمام هذا المحتوى المعقّد من الصراع، أصبح الحديث عن الصراع الديموغرافي على المدينة يتخذ أشكالاً وأنساقاً متعددة، تبعاً لنوعية المشاريع الاستيطانية لدولة الاحتلال، التي لم تتوقف لحظة منذ احتلال الجزء الأكبر منها -يمثّل 86% من مساحتها الجغرافية- عام 1948. وهذا العنصر الأهم المفقود اليوم في الحديث عن مدينة القدس؛ الاحتلال استولى على هذه المساحة الكبرى من المدينة، وقام بطرد وترحيل عشرات الآلاف من الفلسطينيين في «الجزء الغربي» من المدينة، كما أمست تسميته بعد النكبة. ومع هزيمة حزيران عام 1967، أُلحق الجزء المتبقي من المدينة، بسكانه، بالاحتلال، كان يعرف بـ«القدس الشرقية»، أو العربية، أو القديمة، حيث الحرم القدسي الشريف وكنيسة القيامة والأسوار التاريخية للمدينة. ومباشرة، قامت سلطات الاحتلال بإصدار قرار بضم هذا الجزء لحدود الجزء المحتل عام 1948. لكنها أبقت على الوضع القانوني لسكان القدس تحت الحكم العسكري، باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من سكان الضفة الغربية، وبقي هذا الوضع حتى تموز من عام 1980، إذ صادق البرلمان الصهيوني على القانون الأساس، الذي بموجبه أعلنت فيه القدس العاصمة الموحدة لإسرائيل.
فرض الواقع الجديد ترتيبات قانونية، شملت السكان الفلسطينيين المقدسيين المقيمين في الشطر الشرقي من المدينة؛ قامت سلطات الاحتلال بتبديل بطاقات هويتهم، من بطاقات الضفة الغربية، إلى البطاقات الزرقاء، فجعلت صفة المقدسي «مقيماً» في المدينة، لا يحمل صفة «المواطنة». بذلك، بدأت رحلة جديدة من عذابات المقدسيين.
مع هذه الإجراءات، توصّل المقدسيون إلى أن الصراع على القدس أخذ بعداً آخر، وهو البعد الوجودي، بالمعنى الفكري والديموغرافي والمعيشي، خاصة أن الاحتلال، منذ اليوم الأوّل لاحتلال المدينة، شرع في سلسلة من الإجراءات تقوم على الاستيلاء على الأراضي والعقارات والبيوت وطرد السكان الأصليين منها.

كيف تم ذلك؟
بداية، لا بد من الإقرار أن سلطات الاحتلال قد نجحت، جزئياً، في مخططاتها التهويدية. هذا النجاح مردّه تراكم عوامل القوة لدى دولة الاحتلال، بالاستناد إلى الدعم الذي تقدّمه المنظمات والجمعيات اليهودية المنتشرة في أنحاء العالم، حين أمدّت، ولا تزال تمد، هذا المشروع بالدعم المادي للمشاريع الاستيطانية كافة. كما رفدت، ولا تزال، تلك المشاريع بالمستوطنين المهاجرين من البلدان كافة، إضافة إلى القوى الاستيطانية المحلية، التي تتبنى بشكل كامل الرواية الدينية التلمودية، الناشطة على الأرض، وهي تمتلك اليوم حصة وازنة في برلمان الاحتلال، ما أهّلها للمساهمة بالعديد من مشاريع القوانين والتشريعات والقرارات الإدارية والتنفيذية والتنظيمية، تخدم الهدف الأساس، وهو إفراغ القدس من السكان الأصليين، في سبيل تدعيم الاستيطان ووجود المستوطنين، وتهويد المدينة ككل.
في المقابل، فإن فلسطينيي القدس، يقفون وحدهم أمام تلك الإجراءات، في ظل شح الدعم السياسي والمادي من القيادة الفلسطينية لهم، وغياب الدعم العربي والإسلامي، لصمودهم، باستثناء مؤسسات عربية غير رسمية، يقابله تواطؤ بعض الأنظمة الخليجية التي ساعدت على تمويل عمليات تسريب لعقارات للمستوطنين، حسب تقارير إعلامية عربية ودولية.
توضح هذه النسب مدى الصمود الفلسطيني في القدس بعد حرب حزيران 1967


مؤشرات ديموغرافية
في حمى الصراع على الأرض والسكان الذي اشتد في الآونة الأخيرة، تكشف مؤشرات إحصائية فلسطينية، ومثلها تابعة للكيان، أن أعداد الفلسطينيين في شرقي القدس تبلغ 281 ألف فلسطيني، حسب تقرير للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. بينما ذكر التقرير السنوي الصادر عن «معهد القدس لبحث السياسات»، التابع للاحتلال، أن عدد السكان في القدس 951.100 نسمة في عام 2020، بينهم 570.100 يهودي (61%) و366.800 فلسطيني (39%)، بينهم 353.800 مسلم و12.900 مسيحي.
توضح هذه النسب مدى الصمود الفلسطيني في القدس بعد حرب حزيران 1967. هذا الصمود تبلور نتيجة عوامل فلسطينية داخلية تخص المقدسيين، الذين يمتازون بوعي سياسي كبير، ويدركون الدور المركزي لمدينتهم ومكانتها في الصراع. يضاف إلى ذلك، تمركز النخبة السياسية والثقافية في المدينة تاريخياً قبل الاحتلال، خاصة وأنها ساهمت إلى حد كبير في الإبقاء على جذوة الصراع مشتعلة. وقد لعب المرحوم فيصل الحسيني دوراً كبيراً في التمثيل السياسي لفلسطينيي القدس، وكذلك في إنشاء المراكز العلمية والبحثية التي ترعى صمودهم، فضلاً عن لُحمة وترابط العائلات المقدسية، ما وفّر الحماية الدائمة والملجأ للعائلات الفلسطينية التي تعرّضت، وتتعرّض اليوم، لمحاولات الطرد من بيوتها، تحت وطأة القوانين الظالمة لسلطات الاحتلال، تحاول حرمانها من حق البقاء في المدينة.

مآلات الصراع على القدس
من الواضح أن السكان الفلسطينيين المقدسيين، وبعد هذه السنوات، قد اكتسبوا مهارات متقدمة في التصدي للمشاريع الاستيطانية التي استهدفتهم. الصراع الديموغرافي يتجاوز الأرقام والإحصاءات والنسب السكانية، ليطال نوعية وكثافة الوعي لكلا الطرفين، الأصلاني والوافد الجديد؛ الأصلاني بما يمتلك من إرث حضاري مكّنه من التعامل مع الاحتلال بصفته لحظة طارئة في الزمن، في المقابل، الاحتلال، الذي يوظّف فائض القوة في سبيل تحقيق أهدافه الاستراتيجية للسيطرة الكاملة على المدينة، لديه الكثير من نقاط الضعف المتمثّلة في ضعف المشروع الإحلالي وفشله في تجارب من سبقوه من الدول الاستعمارية.
ويشهد نموذج جنوب أفريقيا على ذلك، من جهة، ومن جهة أخرى، افتقار هذا المشروع لخاصية النمو السكاني الكبير للصهاينة، والذي لا يتجاوز 1.5% سنوياً في القدس، وهي النسبة العامة نفسها لدى الاحتلال في باقي المناطق المسيطر عليها في فلسطين. كما أن هذا المشروع مصحوبٌ بهجرة معاكسة لشريحة من الشباب اليهودي، سواء خارج البلاد أو إلى المدن المحتلة الأخرى، ما انعكس على المشروع الإحلالي داخل القدس، مصحوباً بعدم قدرة الحكومة الصهيونية على نقل وزاراتها ومؤسساتها الحكومية إلى المدينة حتى اللحظة، برغم إعلانها، منذ أكثر من أربعة عقود، أن القدس عاصمة موحدة لدولة الكيان، وبرغم قرارها العام الماضي نقل الوزارات وفرض عقوبات على الوزارات التي تتأخر بذلك.
في المقابل، النمو السكاني للفلسطينيين، والذي تجاوز حدود 4% من نسبة النمو السنوي، حافظ على كسر المعادلات، وأبقى كل مشاريع التهويد تعاني من هذا المأزق، فلا لون البطاقة، زرقاء أم خضراء، مقيم أم مواطن، تَوقُّفُ لمّ الشمل أم سريانه، منعَ الفلسطيني من الصمود في المدينة، بانتظار جولة أخرى من الصراع تتوفّر لها الظروف الأفضل، تمكّنه من المحافظة على بقائه وديمومة هذا البقاء. هواجس الأرقام التي تملأ ذهن المحتل ستبقى تلاحقه، فيما المقدسي يعيش الواقع ويتأمّل غده ويمارس عاداته وتقاليده ويقينه أنه صاحب المكان الوحيد والأوحد.