تعاني العديد من عائلات وأسر الشهداء والأسرى المقدسيين، الذين نفّذوا عمليات فدائية ضد الاحتلال، من أوضاع غير مستقرة بسبب ممارسة عقاب جماعي يستهدف هدم منازلهم. لا يحمل هذا النوع من العقوبة أيّ أهداف عسكرية، وهو بطبيعة الحال مخالف للقوانين والمعاهدات الدولية، ويستند الاحتلال فيه إلى ما يسمّى قانون الطوارئ، الذي استخدمه الانتداب البريطاني إبّان الثورة الفلسطينية في عام 1936، وهو إجراء يطبّق من دون محاكمة ومن دون اعتماد أدلة.
هذه السياسة الممنهجة، غير القانونية، تحمل تداعيات كبيرة على الفلسطينيين، فهي تمارس الهدم وتدمير المباني منذ تأسيس الكيان، إذ دمّرت مئات القرى والبلدات الفلسطينية عن بكرة أبيها. في خلال العقدين الأخيرين، هدمت إسرائيل أكثر من 8500 منزل في القدس وعموم الضفة الغربية، وشرّدت نحو 18 ألف فلسطيني، وبلغت هذه السياسة ذروتها في عام 2004 مع هدم 177 منزلاً. وتشهد القدس المحتلة في السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في عمليات الهدم، ارتفعت وتيرتها بنسبة 35% العام الجاري. وفي الفترة الواقعة بين عامي 2009 و2022 دمّرت نحو 1500 منشأة أقيمت بأموال المانحين منها مشاريع بنية تحتية ومشاريع سكنية ومنشآت زراعية. توثق «أوتشا» قيام سلطات الاحتلال بهدم نحو 1179 منزلاً في مدينة القدس وحدها بين عامي 2009 - 2019. وشهد حي وادي الحمص جنوب المدينة في تموز 2019 أكبر عملية هدم، طاولت 10 مبان تضم 70 شقة سكنية. وتشير المصادر الحقوقية إلى أن عدد المنازل المهددة بالهدم في القدس قد يصل إلى 20 ألفاً، يسكنها ما لا يقل عن 140 ألف مقدسيّ.
لا يقتصر هدف الهدم في القدس فقط على منفذي العمليات أو ذويهم، بل يطاول مفهوم التجذر والانتماء إلى الأرض، فالاحتلال عندما يسوي بناء في الأرض، لا يقصد فقط إلحاق الضرر المادي والمعنوي بأصحاب البناء، بل يتعمّد تدمير الانتماء إلى الأرض. وعلى الرغم مما يروّجه الاحتلال من الأسباب «الأمنية» وغيرها للهدم، لكنه في النهاية يهدف إلى التنكيل بالشعب الفلسطيني. وفي الهدف البعيد، يجرّب صياغة بنية نفسية مشوّهة وهشّة للفلسطينيين، وهذا يلاحظ في «سيكولوجيا التدمير» التي تعتمد على النظرية السلوكية في علم النفس، من مدى تأثير تدمير المنزل، على أفراد الأسرة، والتحكم في رد فعلهم، ولا سيما إجبارهم على هدم منازلهم بأيديهم. وتستكمل عملية «التدمير» للشخصية، بأنه في حال امتناع الفلسطيني (الضحية) عن هدم منزله ذاتياً، فقد يُمنع من إعادة بناء منزله فوق أرضه. إلا أن ما يمكن إثباته كقناعة، حتى الآن، أن سياسات الهدم في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، خلال أكثر من عدوان، لم تستطع ردع الفلسطينيين عن اتخاذ الأشكال المختلفة من المقاومة التي يمكن مشاهدتها وملاحظتها في يوميات الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة. ذلك مقابل محاولة الاحتلال كسب جولات أخرى في سياسة الهدم، حيث يعمل على البعد الإعلامي ببثّ وعرض صور المنازل والمنشآت المدمّرة، مع إبراز صورة لقهر الرجال، وبكاء النساء والأطفال، خلال أو بعد عملية التدمير للمنازل، فيتم تناقل تلك الصور عبر وسائل الإعلام، لتؤدي بدورها إلى تكريس صورة تؤدي إلى نشر شعور الهزيمة لدى المجتمع الفلسطيني.
تشهد القدس المحتلة في السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في عمليات الهدم، ارتفعت وتيرتها بنسبة 35%


إن أصل العلاقة مع الاحتلال ترجع إلى فكرتي الضحية والجلاد، وحالة القمع من الأخير، عبر استخدامه أدوات القوة لديه، ومنها شعوره بالنشوة جراء السيطرة الوهمية التي تعود وترتج عند أول عملية جديدة، صغيرة كانت أم كبيرة، أو مواجهة شعبية كالتي حصلت في حي الشيخ جراح وباب العَمود والتحقت بهما غزة بمعركة «سيف القدس». موازين القوى بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني تتحدد بـ«القوة التاريخية الكامنة» و«قوة التدمير الهمجي»، وتتجسد وظيفة الأولى في الصراع بتحوّلها إلى قوة ملهمة وفعّالة. وإمكانية خلق رواية عن البطولة والصمود هي من أهم عناصر القوة التاريخية الكامنة، التي يتفوّق بها الشعب الفلسطيني على العدو الإسرائيلي. لقد استطاع الفلسطينيون، كما في معركة حي الشيخ جراح، أن يشكّلوا حالة دفاع شعبي فلسطيني عن عائلات حي، ونجحوا في الصمود والبقاء، وفوق كل ذلك، تمكّن الجانب الفلسطيني من الانتصار في «المعركة الرقمية» وتظهير وجهين (محمد ومنى الكرد) كشخصيات عامة تعبّر عن آلام الحي والفلسطينيين ككل، عن وجودهم المهدد بالطرد في أي لحظة.
هذا الوجود الطبيعي للفلسطينيين في مدينتهم وأرضهم، وسلوك الاحتلال في المقابل لإنهائه، يتقاطع مع تقرير مجموعة الأزمات الدولية «سياسات إسرائيل الحالية سوف تؤدي بحلول عام 2045 إلى جعل القدس مدينة بأقلية يهودية». على ضوء ذلك، يتضح أن الصراع على القدس ليس صراعاً دينياً، إنما صراع جيوسياسي يستند إلى التمسّك بجغرافية المكان لما لها من أهمية استراتيجية تضمن الغلبة للأقوى المتجذّر بالمكان نفسه، والمتحكّم بدلالاته وتوظيفاته العميقة.
هؤلاء، أصحاب البيوت المهدّمة والمهددة، مع اللاجئين الذين هُجّروا من بيوتهم في النكبة وما بعدها، يعتبرون البيت بالنسبة إليهم، ليس مجرد مكان للإيواء، إنما يعتبرونه رمزاً حقيقياً للتشبث بالأرض والعودة إلى الديار. نادراً ما يغيب البيت الفلسطيني عن مفردات القضية، ويحضر في الحرب والسلم، وفي السياسة والثقافة والفنون. لذا يتحوّل، بمساحته وتفاصيله، إلى رمز واقعي يجسّد معاني الحياة الآمنة من المخاطر، وخزّانَ الذكريات المستمرة، وعنواناً للهوية والتاريخ. فما بالنا بمنازل وبيوت القدس القديمة.