أعاد تَجدُّد أحداث العنف القبَلي في ولاية النيل الأزرق منذ منتصف تموز، رسْم علامات استفهام كبيرة حول مسار المرحلة الانتقالية في السودان، وفي القلْب منها «اتفاق جوبا للسلام» ومتطلّبات تطبيقه في الولايات المختلفة، ومن بينها النيل الأزرق وشمال كردفان (واللتان حصلتا في حزيران 2021 على الحُكم الذاتي بمقتضى إعلان دستوري أصدره قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان). كما أثارت هذه الأحداث مخاوف من امتدادها إلى أرجاء البلاد كافة، وصولاً ربّما إلى حرب أهلية، بات المعنيّون يتخوّفون منها.
المدى والتوقّعات
أثار حادث مقتل أحد المزارعين من إثنية الهوسا (14 تموز)، بسبب خلاف على مُلكية الأرض في موقع الروصيرص، العنف بين مجموعات البرته أو الفونج، وهم السكّان الأصليون لجنوب شرقي السودان المتاخم لجنوب السودان وإثيوبيا ولهم امتدادات إثنية مشتركة بين الدول الثلاث؛ وبين شعب الهوسا الذي تعود أصوله الإثنية إلى نيجيريا. وامتدّ العنف إلى مناطق أخرى من الولاية، وسط اتّهامات لحاكم الإقليم، مالك عقار، بتسليح الفونج لمواجهة الهوسا، عزّزها إحجام السلطات المعنيّة عن التدخّل في الأحداث حتى الـ17 من تموز. وعلى رغم الطابع القبَلي والإثني لذلك الاقتتال، فإن قوى سياسية في النيل الأزرق تتّهم الحكومة العسكرية بـ«التسبّب بالعنف لخلْق فراغ أمني»، فيما يؤخذ عليها عدم وفائها بالتزاماتها على مستوى المخصّصات المالية للإقليم. ومن هنا، وعلى رغم عودة الهدوء النسبي إلى النيل الأزرق، إلّا أنه لا يُتوقّع انتهاء تداعيات هذه الموجة من الاقتتال قريباً، في ظلّ صعوبة تسوية المشكلات العالقة، وأبرزها: التمثيل السياسي، والمحاصصة الاقتصادية، وموازنة حضور الجماعات المسلّحة (سواءً المُوقِّعة على اتفاق جوبا أو غير المُوقِّعة عليه). وكانت قوات محلّية في الولاية حذّرت، قبل نحو شهر، من إمكانية تفشّي العنف فيها، في ظلّ ما شهدته الأشهر الأخيرة (منذ انقلاب تشرين الأول 2021) من تصعيد كبير في الخطاب العنصري بين مجموعات الإقليم؛ ومطالبة بعض القبائل بتمثيل في تراتبية الإدارة المدنية، بينما لم تُظهر السلطات في الخرطوم اهتماماً كبيراً بمعالجة تلك المشكلات.

تشابكات المرحلة الانتقالية
أثارت مبادرة عضو «مجلس السيادة»، مالك عقار، والتي طرحها قبل أكثر من أسبوع «لإنهاء الأزمة السياسية» في النيل الأزرق، ثمّ فنّدها بإيضاحه أنها تتضمّن ثلاث مراحل: أولاها تحديد مسؤوليات الكيانات الحكومية؛ وثانيتها اتفاق «قوى الحرية والتغيير» والجماعات المسلّحة المُوقِّعة على «اتفاق جوبا» والقادة العسكريين حول شخص رئيس الوزراء ووزارته؛ وثالثتها بدء محادثات شاملة حول الدستور والعملية الانتخابية، ردوداً متفاوتة. ورأى معارضون لـ«المجلس السيادي» أن المرحلة الأولى المقترَحة تستهدف «مأسسة الانقلاب» عبر ضمان مشاركة المكوّن العسكري في السلطة، وهو ما ردّ عليه عقار، عقب لقائه القائمة بأعمال السفارة الأميركية في الخرطوم، لوسي تاملين، والتي عرض عليها مقترحاته، بأن مبادرته تهدف إلى «إنهاء الانقلاب، ودعم السلم والاستقرار، وضمان عودة المشرّدين واللاجئين، وإتمام مشروعات التنمية القاعدية في المناطق المتضرّرة من الحرب»، مجدِّداً دعم «الجيش الشعبي لتحرير السودان - شمال» لـ«ثورة ديسمبر وأهدافها المعلَنة»، قبل أن يلمّح إلى استعداده للتراجع عن البند الأول من خارطة الطريق المقدَّمة من قِبَله. وعلى رغم ذلك التراجع، إلّا أن التنسيق الدائم بين الجيش وقوات «الدعم السريع» من جهة، وقوات عقار من جهة أخرى (بشكل غير رسمي حتى الآن ترقّباً لترتيبات إعادة هيكلة الجيش)، ربّما سيضمن قدرة تفاوضية أكبر لعقار وبعض القوى السياسية الداعمة لسياسات المكوّن العسكري بقيادة البرهان.
تمثّل أحداث النيل الأزرق اختباراً حقيقياً وخطيراً للقيادة السودانية الحالية


البُعد الإقليمي
تتداخل التطورات في إثيوبيا (على الحدود مع السودان في هذه الحالة) وفي جنوب السودان، تلقائياً، مع الأزمة الحالية التي يشهدها إقليم النيل الأزرق، إذ تواترت، طوال العام الماضي، اتّهامات حكومية سودانية وتقارير عن دعم إثيوبيا «الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال» (بقيادة عبد العزيز الحلو) ومدّها بالسلاح بهدف «شنّ هجوم على مدينة حدودية في ولاية النيل الأزرق»، وهي التقارير التي نفاها نائب رئيس الحركة، جوزيف توكا. إلّا أن قطاعات سودانية، ولا سيما وسط أنصار الرئيس المعزول عمر البشير، ترى في إثيوبيا المحرّك الأوّل لأحداث العنف في النيل الأزرق، بوصْف ذلك سياسة «تقليدية» لدى أديس أبابا، تستهدف راهناً موازنة ضغط المكوّن العسكري السوداني. وإذ يبدو لافتاً، في هذا السياق، إعلان الخرطوم (17 تموز) عزمها إعادة فتح المعابر الحدودية مع إثيوبيا «بشكل فوري»، في خطوة أظهرت أديس أبابا احتفاءً كبيراً لها، فهو يؤشّر ربّما إلى ضغوط سودانية وإثيوبية متبادلة في المناطق الحدودية المشتركة، من أقصى الشمال عند إقليم التيجراي حتى أقصى الجنوب عند ولاية النيل الأزرق. أمّا جنوب السودان، فهو يواجه بالفعل خطر انفلات العنف، واحتمال تداعي اتفاق السلام الهشّ قبل التمكّن من عقد انتخابات 2023، فيما يهدّد استمرار الاضطرابات في ولاية النيل الأعلى (شمال شرقي جنوب السودان) بامتدادها إلى ولاية النيل الأزرق، ولا سيما مع قرار الولايات المتحدة (15 تموز) الانسحاب من نُظم مراقبة عملية السلام في جنوب السودان «بسبب فشل الأخيرة في تلبية مراحل الإصلاح»، وفي تكوين «جيش احترافي موحّد»، وتفعيل الإجراءات المالية الضرورية، بحسب بيان الخارجية الأميركية.

خلاصة
تمثّل أحداث النيل الأزرق اختباراً حقيقياً وخطيراً - بالنظر إلى تشابكاته مع دول الجوار -، للقيادة السودانية الحالية وقدرتها على الحفاظ على تماسك البلاد ريثما تتّضح عملية اختيار رئيس وزراء وحكومة كفاءات جديدة، وإعادة إطلاق مسار «اتفاق جوبا» العالق في بعض الولايات (ومنها النيل الأزرق). ولربّما يؤشّر استمرار الهدوء على جانبَي الحدود السودانية - الإثيوبية في الفترة المقبلة، والذي بدأت ملامحه ترتسم في الساعات الأخيرة، إلى مدى ارتباط الصراع السياسي والإثني (وربّما العسكري لاحقاً) في النيل الأزرق، بتوازنات القوى - الداخلية والخارجية على السواء - الفاعلة في الولاية.