غزة | أطلقت المقاومة الفلسطينية، ليلة السبت الماضي، أربعة صواريخ تجاه مدينة عسقلان، وذلك بعد 24 ساعة من مغادرة الرئيس الأميركي، جو بايدن، الأراضي المحتلّة. وفي ردّها على ذلك، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية عدّة مواقع للمقاومة، زعمت أنها تُستخدم في صناعة الصواريخ والطائرات المسيّرة، قبل أن تُعلن حكومة الاحتلال، صبيحة السبت، تجميد إصدار 1500 تصريح عمل سبق أن أعلنت عنها عشيّة زيارة بايدن إلى المنطقة، وكان من شأنها أن ترفع عدد العمّال الغزيين الذين يدْخلون مدن الداخل عقب معركة «سيف القدس»، إلى 15500 شخص. وكانت هذه المرّة الثالثة التي تقصف فيها المقاومة مدن الغلاف منذ أيّار 2021، حيث سُجّلت المرّة الأولى في نهاية نيسان، والثانية عقب اغتيال ثلاثة مقاومين في جنين في حزيران. وفي المرّات الثلاث، عمدت سلطات العدو إلى الردّ اقتصادياً، تارةً عبر وقف دخول العمّال نهائياً وإغلاق معبر بيت حانون، وأخرى من خلال التلويح بتقليص أعداد تصاريح العمل.وتدلّل ردود الفعل تلك على أن الاستثمار الإسرائيلي في سياسة تحقيق الأمن عن طريق الاقتصاد، أضحى نهجاً ثابتاً، وهو ما يلخّصه الخبير الاقتصادي، محمد أبو جياب، بجملة: «أعطوا الفلسطينيين ما يخشون خسارته». وإذا كان من شيء يتعطّش إليه القطاع بعد 15 عاماً من الحصار، فهو فُرص العمل المُجدِية مادّياً، حيث وصلت نسبة البطالة في غزة عام 2021 وفق إحصائية الجهاز المركزي للإحصاء إلى 50%، وفق ما يفيد به أبو جياب «الأخبار»، لافتاً إلى أن «السياسة الاقتصادية الإسرائيلية تستهدف الطبقة الأكثر فقراً في القطاع، تلك التي أُقعدت عن العمل في الداخل عقب اتّباع رئيس الوزراء السابق، آرييل شارون، سياسة فكّ الارتباط عام 2002»، مضيفاً أنه «بالنسبة لتلك العائلات، توقّفت عجلة الحياة والعيش الكريم والتطوّر منذ ذلك الحين». والجدير ذكره، هنا، أن عمّال غزة يتلقّون في الداخل المحتلّ أجوراً يومية تتجاوز بعشرة أضعاف ما يتلقّونه في القطاع؛ إذ لا تَبلغ «يوميّة» العامل في غزة 30 شيكلاً (10$)، فيما في الداخل تتجاوز هامش الـ300 شيكل (90$)، أي ما يعادل أسبوعياً 2000 شيكل (580$)، وهو ما يسهم في صناعة نقلة نوعية في معيشة 15 ألف أسرة.

أهداف جديدة
تعود إسرائيل، بربط التسهيلات الاقتصادية وخصوصاً ملفّ العمل في الداخل المحتلّ بالهدوء الميداني، إلى سياسة قديمة جديدة، تقوم على «استخدام الاقتصاد في تحقيق الأمن وتغيير المجتمع». وفيما تبدو جزئيّة الأمن واضحة، خصوصاً أن الاحتلال لا يريد الاتّجاه إلى التصعيد الميداني مع غزة وسط التوتّر الذي تعيشه جبهات عدّة، مِثل الضفة ولبنان وسوريا، يضع الباحث السياسي، كريم سلامة، عدّة خطوط حمراء أسفل «التغيير المجتمعي»؛ إذ يرى أن المجتمع الفلسطيني في القطاع من ناحية اقتصادية كان منقسماً إلى أربعة مكوّنات، هي: موظّفو غزة (40 ألفاً بمتوسّط راتب يبلغ 500$ شهرياً)؛ وموظّفو السلطة (70 ألفاً بمتوسّط راتب يصل إلى 700$)؛ وموظّفو «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا) (13 ألفاً بمتوسط راتب قيمته 1000$)؛ وموظفو القطاع الخاص (15 ألفاً بمتوسّط راتب يناهز 350$)؛ إضافة إلى أعداد محدودة من موظّفي مؤسّسات المجتمع المدني؛ وقد كانت رواتب تلك الفئات هي المحرّك الأساسي للسوق، فيما يتمتّع أكثر المنتمين إليها بحرية الانتماء الحزبي والعمل التنظيمي، وبالتالي فهم لا يشكّلون رأياً ضاغطاً من شأنه أن يؤخذ بالحسبان في العمل المقاوم. أمّا اليوم، فتريد إسرائيل، بحسب سلامة، إعادة إنتاج طبقة مجتمعية جديدة كانت حاضرة سابقاً، وهي عمّال الداخل المحتل، الذين «سيحافظون على حيادهم الحزبي، ولن ينخرطوا في الصراع الوطني، وسيطالبون بالهدوء إلى أقصى مدى ممكن حتى لا تتأثّر مصالحهم». إلّا أن «ما لا يستطيع الاحتلال فهمه، هو أن حماس أيضاً معنيّة بالمحافظة على نافذة العمل هذه، وكانت في عام 2018 قد بذلت الدم في مسيرات العودة طوال عامين حتى تبعد شبح الجوع عن بيئتها الداخلية، لذا فإن الواردات النقدية التي يوفّرها عمّال الداخل، ستساهم في تخفيف الضغط عن الجناح الحكومي في حماس، خصوصاً لدى الطبقة التي لم تستطع أيّ من الحكومات والفصائل انتشالها من الفقر خلال الأعوام الماضية»، كما يقول سلامة.
تعود إسرائيل إلى سياسة قديمة جديدة، تقوم على «استخدام الاقتصاد في تحقيق الأمن وتغيير المجتمع»


لكن هل يؤثّر ذلك على خيار المقاومة؟ يشير الباحث والمحلّل السياسي، إسماعيل محمد، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أنه «في التقدير الإسرائيلي، ليس المطلوب أن تؤثّر طبقة العمال على خيارات الهدوء والتصعيد فقط، إنّما من المفترض أن يَخرج هؤلاء لمواجهة المقاومة إذا ما قرّرت التوجّه إلى حرب أو تصعيد (...) لكن في الواقع، ليست تلك سوى مجرّد أوهام وتمنّيات». وبحسب محمد، فإن إسرائيل ستفهم في مقبل الأيام، أن الضغط الذي يمكن أن يولّده هذا الملفّ على خيارات المقاومة، سيبقى منحصراً بتقدير الفصائل ما إن كانت التعدّيات الإسرائيلية تمسّ خطوطاً حمراء، أي أنها جديرة بكسر كلّ الوقائع القائمة من أجلها، أم يمكن استيعابها في إطار ردّ محدود. ويُذكّر المحلّل السياسي بأن «انتفاضة الأقصى اندلعت عام 2000 في أوضاعٍ اقتصادية في غزة والضفة يمكن القول إنها تميل إلى الرفاهية، ورغم ذلك، تغلّبت الحسابات الوطنية على الحواجز المعيشية، وانخرطت فئات المجتمع كافّة في الحالة الوطنية. ولذا، فإنه لا خوف من أن تتحقّق الآمال الإسرائيلية في هذا الصدد (...) ما سيحدث، أن إسرائيل ستقدِم على شراء الهدوء دائماً، فيما ستحدّد المقاومة أولوياتها، ولن تتغلّب الحواجز المعيشية على الواجبات الوطنية بكلّ تأكيد».