تسعى الإمارات للعب دور بارز في واحد من أخطر الملفّات التي تواجه القارّة الأفريقية راهناً: سدّ النهضة، وتحويله من أزمة إلى فرصة تعزّز مقدّرات أبو ظبي الاقتصادية والاستثمارية في حوض النيل؛ وتضْمن استمرار نظام آبي أحمد، الوثيق الصلة بها، وسط متغيّرات دولية متصاعدة تزيد من حدّتها تداعيات الأزمات الاقتصادية والتنافس الدولي على موارد الإقليم الهشّ سياسياً؛ وتؤدّي ضمناً إلى تمتين الصلة مع إسرائيل عبر «الإدارة المشتركة» تفادياً لحساسية الحضور الإسرائيلي المباشر. وقد تَجدّد الحديث عن وساطة إماراتية في هذا الملفّ منذ مطلع حزيران الماضي، بعد معلومات أوردتها وسائل إعلامية إثيوبية، نقلاً عن مصادر إماراتية، عن استعداد أبو ظبي للعب «دور بنّاء» بخصوص السدّ، وتكوينها فريقاً من الخبراء الفنّيين للغرض المذكور، على أن يقود المهمّةَ شخبوط بن نهيان، وزير الشؤون الأفريقية. كذلك، بدت لافتة، مطلع الشهر الجاري، دعوة الإمارات إلى تأجيل أيّ حديث عن مفاوضات حول «النهضة» إلى ما بعد اكتمال «الملء الثالث»، بحجّة تهيئة الأجواء أمام نجاعة هذه العملية، في تبنٍّ كامل لوجهة النظر الإثيوبية.
الإمارات وإثيوبيا: تقارب متزايد
تُعدّ الإمارات، في نظر إثيوبيا على الأقلّ، وسيطاً «مثالياً» في أيّ محادثات مرتقبة بخصوص سدّ النهضة، لعدّة اعتبارات أبرزها صلتها الوثيقة بنظام آبي أحمد؛ وتطابق رؤاهما الاستراتيجية في إقليم القرن الأفريقي؛ وحضورها المتنامي في إقليم البحر الأحمر سواءً بشكل منفرد أو بالتنسيق مع فاعلين إقليميين ودوليين في مقدّمتهم إسرائيل والولايات المتحدة (ومصر)؛ وقدرتها على إرفاد أيّ حلول تقترحها بتمويل التنفيذ (كما في حالة أرض الفشقة الزراعية السودانية التي يحتلّها مزارعون إثيوبيون وكانت أديس أبابا ترفض نقل السيادة عليها إلى الخرطوم)؛ وتطلّعها إلى استغلال الفرص الهائلة في حوض النيل (والبحر الأحمر) بدعم إسرائيلي واضح، وقبول أميركي قائم بالأساس على دفْع مشكلات الإقليم واستقطاباته إلى حدودها القصوى، قبل فرْض «تسوية» ربّما تتّضح ملامحها في زيارة جو بايدن المرتقبة إلى الرياض. وتستند الإمارات، في دخولها على خطّ ملفّ «النهضة»، إلى انخراطها في جهود الوساطة بين الأخيرة وإريتريا؛ ودعمها نظام آبي أحمد عسكرياً واقتصادياً في مواجهة آثار الحرب في إقليم تيجراي (خصّصت في آذار 2022 مساعدات إغاثة بقيمة 85 مليون دولار لأديس أبابا)، وتمتّعها حالياً بمكانة بارزة في ملفّ الأزمة الإثيوبية الداخلية، كما يتّضح في الخطاب المفتوح الذي وجّهه رئيس «جبهة تحرير تيجراي»، دبرتصيون جبرامايكل، منتصف حزيران الماضي، إلى «الشركاء الدوليين» المعنيّين بتسوية الأزمة، وعلى رأسهم رئيس الإمارات، محمد بن زايد.
لم تقدّم أبو ظبي وثيقة رسمية تتضمّن أجندة وساطتها أو أهمّ بنودها


وفيما شجّعت الإمارات أطراف الأزمة على تجميد خلافاتهم إلى ما بعد الملء الثالث (كما أعلن آبي أحمد أكثر من مرّة)، فإن ذلك يأتي في سياق واضح تماماً، عنوانه استنزاف الوقت لصالح الترتيبات الإماراتية الأشمل في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، وعلى رأسها ضمان استثماراتها في كينيا، التي تترقّب أبو ظبي نتائج انتخاباتها الرئاسية في آب المقبل، حيث سيترتّب على الأولى حسْم موقفها من عرْض «شركة موانئ دبي العالمية» على حكومة أوهورو كينياتا الحالية (خلال زيارته الإمارات في آذار 2022)، إدارة الشركة لأربعة موانئ كينية، في ما وصفه وليام روتو، نائب الرئيس الكيني الحالي وزعيم تحالف «كينيا كوانزا»، بأنه محاولة سرّية من قِبَل كينياتا لبيع أصول البلاد. وجاء ذلك بالتزامن مع ما تَردّد عن فقْد إثيوبيا حصّتها في ميناء بربرة في إقليم «أرض الصومال»، والبالغة 19%، بعد فشلها في الوفاء بالتزاماتها المطلوبة.

الإمارات - مصر - السودان: معضلة «فكّ الارتباط»
في المقابل، حقّقت مصر تقارباً واضحاً مع الاتحاد الأوروبي، الذي تصف السلطات الإثيوبية موقفه في ملفّ سدّ النهضة في الأسابيع الأخيرة، بـ«المنحاز» إلى الأولى. كما وردت إشارات إلى وجود الملفّ على أجندة زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، المرتقبة للرياض، ما يعني ميزة نسبية للقاهرة. لكن تظلّ مسألة الوساطة الإماراتية عبئاً كبيراً على مصر، نظراً إلى مشروطياتها المكلفة سياسياً واقتصادياً، وفق ما يتّضح في الحلول الجزئية التي اقترحتها أبو ظبي (في وساطات سابقة)، مثل استئثار شركات إماراتية وإثيوبية بإدارة منطقة الفشقة السودانية لمدد مطوّلة، الأمر الذي رفضه «مجلس السيادة» السوداني في وقتها بشكل صريح، وبتأييد ضمني من القاهرة. مع ذلك، يبدو أن الإمارات تُحرز نجاحاً في اتّباعها سياسة الاحتواء المزدوج بين دولتَين من أكبر دول القارّة، وترسّخ تحالفاً متوازياً معهما، بتنسيق واضح مع إسرائيل وأحياناً بتوجيه منها، بحُكم تقاطعات المصالح والمخاطر (في البحر الأحمر أو حوض النيل أو الصومال). وقد نجحت أبو ظبي في تحقيق تقارب تامّ مع نظام آبي أحمد بعد أن منحته «قبلة الحياة» نهاية عام 2021، بدعمه بجسر عسكري جوّي مكّنه من تفادي هزيمة كارثية. كما نجحت في استغلال المصاعب الاقتصادية التي تواجهها مصر، واضطرّت الأخيرة إلى تأجيل أفكار «فكّ الارتباط» التدريجي مع الإمارات في القرن الأفريقي، في الوقت الذي بدا فيه هذا التوجّه ضرورة لصيانة أمن مصر القومي والحفاظ على مكانتها التقليدية، على الأقلّ منذ نهاية عام 2021.
أمّا السودان، الذي تتعمّق صلاته مع مصر بمرور الوقت في أغلب الملفّات الثنائية وفي مقدّمتها سدّ النهضة، فيمثّل فرصاً هائلة لتحقيق الإمارات (وبقيّة دول الخليج) أمناً غذائياً مستداماً، كما يوفّر حلقة مهمة في سياسات الموانئ الإماراتية في البحر الأحمر وشرق أفريقيا، وفق ما يتكشّف في عزم مجموعة شركات إماراتية - بعضها على صلة بمستشار الأمن القومي طحنون بن زايد - الانخراط في خطّة لتطوير ميناء سوداني على البحر الأحمر (ضمن حزمة مشروعات بقيمة 6 بلايين دولار)، بالتنسيق مع رجل الأعمال السوداني، أسامة داوود عبد اللطيف (رئيس مجموعة دال السودانية). لكنّ هذه الاتفاقات لم تؤكَّد رسمياً من قِبَل الشركات الإماراتية حتى الآن، وهو الأمر الذي يمكن ربطه باضطراب مرحلي في حُزمة السياسات الإماراتية في السودان، كما حال المنطقة ككلّ.

وساطة بلا أجندة رسمية
على رغم تعزيز الإمارات سياساتها الأفريقية بشكل عام بخطاب تنموي وتعاوني، فإن هذه السياسات في مجملها تظلّ صفقات متفرّقة لعدد من أبرز الشركات الإماراتية في قطاعات الموانئ والخدمات اللوجيستية والطاقة، ولا يمكن وصفها بـ«الاستراتيجية الإماراتية». وينسحب الأمر نفسه على «الوساطة الإماراتية» في ملفّ سدّ النهضة؛ إذ لم تقدّم أبو ظبي وثيقة رسمية تتضمّن أجندة تلك الوساطة أو أهمّ بنودها، واكتفت بتعليقات صحافية رافقت زيارات ثنائية قام بها قادة من الدول الثلاث المعنيّة بالأزمة. كما أن ما سُرّب من أهداف الوساطة ودينامياتها لحثّ الأطراف على قبول مخرجاتها لاحقاً، لم يتضمّن ما تسعى له القاهرة من ضمانات قانونية ملزمة، تصون حقوقها التاريخية والمصيرية في مياه النيل، ولا تجعلها مرهونة باستثمارات إماراتية أو إثيوبية، أو بمشروعات إقليمية مستقبلية فشلت بسبب صعوبة تطبيقها على الأرض (مثل المشروعات الإماراتية لربط إثيوبيا بالسواحل الإريترية منذ عام 2018). وتتّسق سمة غياب أجندة رسمية، في واقع الأمر، مع دور الإمارات الراهن المضطرب في القرن الأفريقي، والذي فشل في إعادة إنتاج «الفوضى الخلّاقة» كما فعل لسنوات في إقليم «أرض الصومال» الانفصالي، ويواجه حالياً تحدّيات في الصومال وإريتريا بعد خروجه من جيبوتي؛ ما يفسّر ويبرّر استمرار نموّ الصلة الإماراتية - الإثيوبية. وهكذا، فإن أفضل التوقّعات بالنسبة إلى الوساطة الإماراتية، التي لا يبدو أن القاهرة تعوّل عليها، لن تتجاوز كونها مجرّد «بند» تمويلي ضمن تسوية دبلوماسية دولية أشمل، في حال قُيِّض لهذه الأخيرة أن تَتحقّق.