لا توفّر سلطات العدو أيّ وسيلة قد تمكّنها من تحقيق هدفها في التهويد الكامل للقدس. وهي تتلطّى في خضمّ صراعها الدائم لإثبات ملكيّة الأراضي والعقارات لصالح اليهود حصراً، خلْف عناوين «ناعمة» مِن مِثل «تقليص الفجوات وتحسين جودة حياة» الفلسطينيين في المدينة، في محاولة لإقناع هؤلاء بـ«تسوية أملاكهم». وفي آخر فصول هذا المسار، بدأت دولة الاحتلال عملية «تخليص» ما تدّعي أنها «أملاك يهودية»، لا سجلّ يثبت يهوديتها سوى «الصندوق القومي اليهودي»، مع ما اقتضاه ذلك من إلغاء إجراء «المختار» المتّبع منذ الانتداب البريطاني، وصولاً إلى فرْض قائمة من الشروط التعجيزية على المقدسيين لإثبات حقهم في الأرض. وبالنتيجة، يتبيّن أن إسرائيل لا تريد فقط حصْر أقلّ عدد من الفلسطينيين في أضْيق مساحة ممكنة، وإنّما أيضاً تضييق سُبل الحياة والعمران على مَن يتبقّى من هؤلاء
ما تكشّف أخيراً في غير وسيلة إعلامية إسرائيلية حول إتمام سلطات الاحتلال، عبر وزارة القضاء، تهويد مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية في المدينة، وخصوصاً في محيط البلدة القديمة وجنوب المسجد الأقصى، قد لا يكون جديداً، ولكنه يعكس تقدُّم «مخطّط التسوية» الذي أقرّته السلطات الإسرائيلية عام 2018. الجديد في المسار التهويدي، طبقاً لتقرير نشرته صحيفة «هآرتس» قبل أيام، هو أن السلطات بدأت منذ حوالي الأسبوعين إجراءات تسجيل الأراضي الواقعة ضمن مشروع «الحديقة القومية» حول أسوار البلدة القديمة وجنوب الأقصى، معتمدةً على ميزانية خُصّصت «لتقليص الفجوات الاجتماعية» و«تحسين جودة حياة الفلسطينيين في القدس»، فيما يجري تسجيل الأملاك بشكل حصري بأسماء الإسرائيليين اليهود. وأشارت إلى أن المسؤول عن تسجيل الأراضي في القدس، دافيد روتنبرغ، شرع، عقب صدور قرار عام 2018، بإجراءات التسجيل في المناطق التي مُنِحت أولوية في العامَين الماضيَين، وخصوصاً تلك التي تتضمّن مشاريع وأحياء استيطانية مستقبلية.
وفي وثائق حصلت عليها «الأخبار» من «جمعية الدراسات العربية، دائرة الخرائط ونظم المعلومات الجغرافية»، يتّضح أن مشروع تسوية الأراضي الجاري في القدس حالياً، يستهدف تقريباً كلّ أحياء المدينة الفلسطينية، وفي مقدّمتها الشيخ جراح، حيث تقع مجموعة من الوحدات الاستيطانية الإسرائيلية في قلب الحيّ، ويفصلها شارع عن كرم المفتي. وبحسب المعلومات الواردة في إحدى الخرائط، فإن المقطع الذي يتضمّن هذه الوحدات لا يزال في طور التسوية، مع العلم أن عملية التسجيل في الحيّ المذكور شارفت على الانتهاء، بعدما سُجّلت غالبية الأراضي باسم مُلّاك يهود. أمّا في «راموت»، فتجري تسوية أراضٍ صوردت من الفلسطينيين في عام 1970، وهي من أراضي لفتا، وفي «رمات أشكول» و»رمات شلومو»، تُسوّى حالياً أراضٍ صودرت عام 1970 أيضاً، وكانت ملكيّتها لفلسطينيين من شعفاط. وفي «التلة الفرنسية» (أراضي شعفاط)، تتمّ تسوية ثلاثة مقاطع صودرت عام 1968، حيث تخطّط سلطات الاحتلال لبناء حيّ استيطاني جديد يُسمى «غفعات هشاكيد» في جنوب القدس. وبالانتقال إلى «جفعات همتوس»، تَبرز تسوية أراضٍ هي بالأساس لفلسطينيين من بيت جالا، وعلى ما يبدو ستُسجَّل باسم ملّاك يهود لصالح تمدّد مستوطنة «جفعات همتوس» عمرانياً. أمّا في حيّ الطالبية، فتطاول عملية التسجيل كنيسة لوثرية، مُباعة طبقاً للوثائق، فيما صودر جزء منها عام 1970. وتشمل عملية التهويد، الجارية بغطاء «التسوية»، أيضاً، منطقة تقع بين مستوطنة «هار حوما» وبلدة صور باهر، بالقرب من مستوطنة «هار شلومو» التي يستوطن فيها يهود متشدّدون، وهي مسجَّلة بمُلكية «حارس الأملاك»، بالإضافة إلى منطقة أخرى من المقرَّر أن يقام فيها حيّ استيطاني جديد في مستوطنة «عطروت» شمالي مدينة القدس المحتلة، والمسجَّلة كذلك باسم «حارس الأملاك».
وبالعودة إلى «هآرتس»، ذكرت الأخيرة في تقريرها أن هذه العملية التهويديّة مموَّلة بميزانية تهدف «إلى خلق مستقبل أفضل لسكّان القدس الشرقية»، كما جاء في منشورات وزارة شؤون القدس في حكومة العدو؛ إذ صادقت الأخيرة عام 2018، على خطّة خمسية لـ«تقليص الفجوات في القدس الشرقية»، وكجزء من القرار، الذي بلغت ميزانيته أكثر من مليارَي شيكل، خُصّصت ميزانيات لمجموعة متنوعة من الوزارات. وبضغوطات من وزيرة القضاء حينها، أييليت شاكيد، تلقّت الوزارة ميزانية لإنشاء نظام لتسجيل الأراضي شرق المدينة المحتلّة. واستغلّت شاكيد حقيقة أنه منذ استكمال احتلال المدينة الفلسطينية عام 1967، لم تسجِّل سلطات الاحتلال ملكيّة الأراضي في الشطر الشرقي؛ إذ إنه حتى اليوم لا تزال 90% من الأراضي في هذا الشطر، غير منظَّمة أو مسجَّلة بملكية أحد في سجلّات وزارة القضاء الإسرائيلية، الأمر الذي يضاف إلى الإجراءات التعجيزية لاستصدار تراخيص بناء، وهو ما تتذرّع به السلطات الإسرائيلية لهدم عمارات وأبنية سكنية، ومنشآت في القدس وغيرها. والجدير ذكره، هنا، أن المقدسيين، وبناءً على التجارب التي خاضوها مع هذه السلطات، باتوا يتجنّبون مجال تسجيل الأراضي خوفاً من تسريبها أو تهويدها أو احتيال الجهات الإسرائيلية للسيطرة عليها تمهيداً لاستغلالها في مشاريع استيطانية أو لمصادرتها والمطالبة بملكية العقار أو أجزاء منه، بالاعتماد على قانون أملاك الغائبين الذي يسمح لـ«حارس الأملاك» بمصادرة الأصول إذا كانت مسجّلة باسم أشخاص موجودين في أراضي «العدو» أو حتى كانوا موجودين فيها.
المسار الاستيطاني في القدس متشعّب ومعقّد، ويديره الاحتلال بأساليب مختلفة


عملياً، فإن «التسوية» الجارية ليست إلّا وجهاً من وجوه السيطرة الاسرائيلية على أراضي الفلسطينيين واستكمال سرقتها باسم «القانون»، وخصوصاً أن المراحل المتقدّمة التي وصلت إليها هذه التسوية، طبقاً للخرائط التي حصلت عليها «الأخبار»، توضح اتّساع مخطّط تهويد القدس، والذي سيطاول في الأسابيع القريبة حيّ أبو الطور ووادي ابن هنوم ومناطق أخرى محيطة بسور البلدة القديمة، وتقع بالقرب من المسجد الأقصى. التطوّر اللافت أخيراً في هذا المسار، هو إلغاء سلطات الاحتلال إجراء «المختار» الذي كان متّبعاً لإثبات ملكية الفلسطينيين للأراضي في القدس. وقد بادرت إلى ذلك وزيرة الداخلية، شاكيد، ومِن خَلفها منظمات استيطانية مِثل «بتسلمو»، «رغافيم»، «إل يوروشاليم»، «صندوق أرض إسرائيل»، وجمعية «عطيرت هكهنيم»، التي تشتغل منذ سنوات طويلة في سرقة أراضي الفلسطينيين في القدس. وطبقاً لما كان متّبعاً، فإن «إجراء المختار» ينصّ على تقديم إفادة اثنَين من المخاتير لإثبات ملكية الأرض في الشطر الشرقي من القدس. وفي هذا الإطار، أشارت صحيفة «غلوبس» الاقتصادية العبرية إلى أن نائب المدّعي العام، المحامية كارميت يوليسيس، أبلغت كبار مسؤولي وزارة الداخلية والمدّعي العام في الضفة الغربية وبلدية القدس بأن «النّص الذي حدّد ملكية الأرض في القدس الشرقية سيُلغى». وإلى جانب إلغاء «المختار» المعمول به منذ فترة الانتداب البريطاني، والذي استغلّت تل أبيب في شطبه حقيقة أن كثيراً من المخاتير توفّوا بسبب كِبر سنهم، حدّدت السلطات مجموعة من الشروط التعجيزية الصارمة التي من دونها لن يتمكّن المقدسيون من إثبات ملكيتهم لأراضيهم، الأمر الذي يضع هؤلاء أمام مصير الاقتلاع والتهجير الحتمي. ويعود كلّ ما تقدّم، بالأساس، إلى القرار 3790 الذي أقرّته حكومة الاحتلال في 13 أيار 2018، وبموجبه صادقت على خطّة تهويدية بعنوان «تقليص الفروقات الاجتماعية والاقتصادية وتطوير الاقتصاد في شرق القدس»، وهي خطّة خمسية تنتهي في العام المقبل، ولأجلها رصدت الحكومة 560 مليون دولار أميركي، وتتضمّن بنداً يتعلّق بتخطيط الأراضي وتسجيلها، خُصّصت له 14 مليون دولار أميركي لتسجيل 50% من الأراضي في شرق القدس حتى عام 2021، واستكمال تسجيل البقيّة حتى نهاية عام 2025.
وفي هذا السياق، يرى مدير الخرائط في «جمعية الدراسات العربية»، خليل التفكجي، في حديث مع «الأخبار»، أن «مشروع التسوية يُعتبر واحداً من أخطر المشاريع الإسرائيلية في عملية نقل الملكيات من ملكية شخصية، خصوصاً أنه يستهدف مناطق صودر جزء كبير منها في عام 1968 حتى عام 1995، ونُقلت إلى أملاك الدولة، وبعد ذلك بنت عليها سلطات الاحتلال مستوطنات»، مضيفاً أن «ما يقوم به الاحتلال حالياً هو تسوية هذه الأراضي من خلال نقل ملكية الدولة إلى ملكية المستوطنين (نقلها من أملاك فلسطينية عربية، إلى أملاك دولة، ومن ثمّ تمليكها لمستوطنين بأسمائهم الشخصية)». ويبيّن أن «جزءاً من أعمال التسوية تستهدف أوقافاً إسلامية صودرت، وبالتالي نُقلت من أملاك وقفية إلى أملاك الدولة من أجل التصرّف بها في ما بعد، وخصوصاً في قضية المقبرة اليهودية البالغة مساحتها 350 دونماً وجرى تحكيرها لليهود منذ الفترة المملوكية، واستمرّت حتى يومنا هذا. واليوم يُراد نقلها من أملاك وقفية إلى أملاك يهودية».
أمّا لماذا بادرت حكومة الاحتلال إلى ذلك؟ يجيب التفكجي أنه «بعد احتلالها الجزء الشرقي من المدينة عام 1967، علّقت السلطات الإسرائيلية عمليات تسجيل الأراضي التي كانت السلطات الأردنية قد بدأتها وسجّلت من خلالها 5% فقط من الأملاك الفلسطينية في الطابو، الأمر الذي كانت له تداعيات كارثية خصوصاً مع وفاة الورثة، وأصحاب الحقوق، أو تعدّدههم، ولا سيما عندما كان يحاول المقدسيون استصدار تراخيص بناء، ما أوقعهم في شرك عملية التسوية والتسجيل، آملين في إثبات ملكيتهم، وهو أمر انتهى عادة خلافاً لما يأملون». وبالنسبة إلى الطاقم الذي كلّفته سلطات الاحتلال اليوم بإتمام عملية التهويد عبر «التسوية القانونية»، فيشمل الحارس العام، وحارس أملاك الغائبين، والأخير هو المدخل الذي فعّلت من خلاله السلطات قانون أملاك الغائيبن، مستغلّةً حقيقة أنها هجّرت الملّاك الأصليين، وصنّفتهم بعدها «غائبين» من أجل الاستيلاء على أملاك المقدسيين ونقلها إلى المستوطنين، وأحد الأدلّة القوية على ذلك هو ما حصل مع عائلات حيّ الشيخ جراح في السنوات التي تلت القرار.
وفي خضمّ إقرار مخطّط «تسوية» الأراضي في شرق القدس، صادق «مجلس إدارة الصندوق القومي اليهودي»، في أيلول 2021، على خطّة موازية هدفها تسجيل وتنظيم الأراضي في شرق القدس، وتشتغل حصراً بالأراضي التي «اشتراها الصندوق». وبلغت تكلفة الخطّة 31 مليون دولار أميركي، ومن المتوقّع أن تنجَز في عام 2026؛ حيث تكون قد أُغلقت معاملات «شراء الأراضي» التي قام بها الصندوق قبل عام 1948 وبعده، ولم تُسجَّل لدى مكاتب السجل العقاري، علماً أنها موثّقة في سجلّاته وفي سجلّات الشركات التابعة له حصراً. وتستهدف هذه الخطّة إنجاز توثيق 2050 معاملة شراء مختلفة لعقارات القدس، ومن ضمنها أرض مساحتها 2500 دونم يدّعي «الصندوق اليهودي» شراءها إبان النكبة من دون أن يسجّلها في مكتب تسجيل الأراضي. والجدير ذكره، هنا، أن فلسطينيين يعيشون هناك، ومن ضمنهم أهالٍ من الشيخ جراح وبيت حنينا، ومن المتوقّع أن تهجّرهم سلطات العدو بعد إثبات «ملكية» الصندوق لتلك الأرض.
في المحصّلة، يمكن الاستنتاج أن المسار الاستيطاني في القدس متشعّب ومعقّد، ويديره الاحتلال بمؤسّساته الرسمية وتنظيماته وجمعياته الاستيطانية بأساليب مختلفة، مستهدفاً بذلك مساحات عريضة من أراضي الفلسطينيين. وهؤلاء تُخاض الحرب عليهم ليس فقط من أجل إبقاء قلّة منهم على أضيق مساحة ممكنة من الأرض، مقابل أكبر مساحة من الأرض لليهود، وبأكبر عدد من المستوطنين، وإنّما أيضاً لمحاصرة مَن تُكتب له النجاة في هذه المعركة، ومنع تمدّده العمراني بإقامة عوائق استيطانية متنوّعة.