تُعدُّ الصين وجهةَ الاستيراد الرئيسة للسوريين الذين ينفقون قرابة 700 مليون دولار كلّ عام على مستورداتهم من البضائع الصينية، وهو مبلغ كبير نظراً إلى الوضع الاقتصادي الحالي في سوريا، وصعوبة توفير العملة الأجنبية بسبب الحرب والحصار المفروض غربياً على البلاد. ويعكس هذا المبلغ حاجة دمشق إلى بكين، جرّاء تعقُّد عملية الاستيراد من دول أخرى، علماً أن التبادل الاقتصادي بين البلدَين لم يكن بذلك المستوى قبل عام 2011، ولم يتعدَّ 520 مليون دولار في أحسن أحواله عام 2003، على رغم أن وضع سوريا الاقتصادي كان حينها جيّداً جدّاً، مقارنةً به اليوم.
اعتقاد خاطئ
لفترة طويلة من الزمن، ساد اعتقاد في سوريا بأن الصين شديدة الاهتمام بالاستثمار في هذا البلد. وتَعزّز ذلك الاعتقاد بعد زيارة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، لدمشق العام الماضي، وما كُتب في وسائل إعلام الحكومة السورية والمقرّبة منها حينها، عن مشاريع صينية قادمة بقوّة لكسر الحصار الغربي، فضلاً عن دور مرتقب للصين في إعادة الإعمار، يعكس حجم العلاقات السياسية المتينة بين البلدَين. لكن، في المقابل، ثمّة من لا يرى في ما تَقّدم سوى نوعٍ من المبالغات، ومن هؤلاء الأستاذ في جامعة «صون يات سين» الصينية، شاهر الشاهر، الذي يَعتبر أن «العلاقة بين بكين ودمشق متواضعة جدّاً»، مستشهداً بأن «آخر زيارة رئاسية بين البلدَين كانت عام 2004، بينما زار وزير خارجية الصين دمشق مرّة واحدة خلال 13 عاماً، أي أن الحديث عن علاقة استراتيجية لا يتعدّى الجانب الإعلامي».
وبما أن الاقتصاد هو المحدِّد الأول للسياسة الخارجية الصينية، وعاملَي الأمان والربح رئيسان بالنسبة إلى الشركات الصينية، فإن هذه الأخيرة «مهتمّة نظرياً بالاستثمار في سوريا، لكن عملياً البلد من وجهة نظرها غير آمن، والصينيون لا يحبّون المغامرة مطلقاً على الصعيد الاقتصادي» بحسب الشاهر، الذي يضيف أن «الدولة الصينية ملتزمة بالعملية السياسية وفق 2254، وبالتالي ترى أن إعادة الإعمار تأتي بعد الحلّ السياسي». وفي الاتّجاه نفسه، تَلفت الصحافية المهتمّة بالعلاقات الصينية - العربية، وانغ شين، إلى أن «السلام في سوريا لا يزال بعيد المنال، واستمرار الاشتباكات العسكرية في بعض المناطق يؤدّي إلى انعدام الأمان»، وترى في حديث إلى «الأخبار» أن «قرار الاستثمار بالنسبة إلى الصين معقّد وطويل، لكن إذا تحسَّن الوضع الأمني في سوريا، فسنشهد انطلاق استثمارات بالتأكيد».
وإلى جانب الاعتبار الأمني، يواجه المستثمرون الأجانب عثرتَين رئيسيتَين على الصعيد المالي في سوريا، الأولى مرتبطة بالعقوبات، والثانية بنقل الأموال بالعملات الأجنبية. وفي هذا السياق، يقول الشاهر إن «العقوبات تُعرِّض الشركات الصينيّة لمخاطر كبيرة هي بغنى عنها»، مشيراً إلى عدم تَوفّر «أبسط حاجات المستثمر، كقدرته على تحويل العملات الأجنبية إلى البنوك السورية، وأن يتسلّم تلك الأموال بالليرة السورية، وفقاً لسعرها الحقيقي الرائج في السوق، لا وفقاً لسعر البنك المركزي السوري، والذي يعني خسارة المستثمر لأكثر من 25% من قيمة أمواله قبل أن يبدأ!»، وبالتالي «لا بدّ من تحديث النظام المصرفي لأنه العصب الرئيس لعملية الاستثمار».

الحزام والطريق... سوريا ليست محوريّة
تحتاج سوريا بالفعل إلى الصين في عملية إعادة الإعمار، خصوصاً على صعيد الطرق والجسور والسكك الحديدية والبنى التحتية الرئيسة، وتحديداً تلك التي يمكن أن تُستثمر في مشروع مبادرة «الحزام والطريق»، لكن تَحقُّق ذلك يتطلّب توفير عدّة عوامل لجذب الصينيين، وهذا مشروط بشكل خاص بإقناعهم بأهمّية الاستثمار في سوريا بالنسبة إلى المخطّط الصيني. ولا يرى الشاهر عيباً في «معرفة حجم سوريا الطبيعي وإمكاناتها المتواضعة، كدولة صغيرة مدمَّرة، وبالتالي فهي إحدى دول مبادرة الحزام والطريق، ولكنها ليست دولة محوريّة لا يمكن الاستغناء عنها»، ويبيّن الشاهر أن «عدم دخول سوريا في المبادرة الصينية لا يعني تعطيلها، لذا رأينا خلال السنوات العشر الأولى من الحرب أنه كانت هناك خرائط جديدة لهذه المبادرة، وكانت سوريا خارجها»، مضيفاً أن «الطريق البرّي للمشروع يمكن أن لا يمرّ من الأراضي السورية، والمهمّ بالنسبة إلى الصين هو الوصول إلى البحر المتوسط، وهذا غير متاح حالياً بعد أن حصلت روسيا على الاستثمار في ميناء طرطوس لمدة 99 عاماً»، ما يعني أن الصينيين لن يكون لهم مكان وازن فيه.
وعلى أيّ حال، يبدو أن سياسة التوجّه نحو الشرق، التي انتهجتها سوريا، ساهمت بشكل نسبي في توفير أسواق للاستيراد منها، وتأمين احتياجات السوق السورية، لكنها عجزت عن جعل سوريا محطّ اهتمام الصين للاستثمار فيها، حيث بقي الموقف الصيني مُقتصراً على بعض التصريحات الرافضة لسياسة الغرب في سوريا، والتصويت لصالح دمشق تارةً والامتناع عنه تارةً أخرى في مجلس الأمن، وانتظار الحلّ السياسي وعودة الأمان من أجل تفعيل الجانب الاقتصادي.