قبل يومين من «مليونية 30 يونيو» التي دعت إليها «لجان المقاومة» في الخرطوم وأم درمان، يمضي مسار المرحلة الانتقالية بوتيرة منتظمة وعلى إيقاع رعاية سعودية - أميركية تحظى بموافقة مصرية للمحادثات بين أطراف الأزمة السياسية. أزمةٌ لم تَحُل بدورها دون تعظيم السودان استفادته من الموارد المحلية، على غرار رفع صادراته من الذهب، في الشهر الحالي، إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود، أو فتحه السوق المحلية أمام استثمارات خليجية ضخمة في قطاعات استراتيجية مثل الموانئ والاستثمار الزراعي. ولكنّها خطوات تأتي في ظلّ تعليق دول «نادي باريس» الاتفاقات الثنائية الموقّعة قبل نحو عام مع حكومة عبدالله حمدوك المُقالة منذ انقلاب تشرين الأوّل 2021، في مشهد ينبئ بضغوط غير مسبوقة على نظام رئيس «مجلس السيادة»، عبد الفتاح البرهان، في ما تبقّى من المرحلة الانتقالية.يترافق هذا المشهد مع عجز السلطات و«مجلس السيادة»، لا سيما في إقليم دارفور الذي يشهد اضطرابات هي الأعنف منذ سقوط عمر البشير، عن توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، مِن مِثل إمدادات المياه والكهرباء. وعلى رغم غياب الحكومة، تزعم السلطات أنها تضغط في اتجاه تطبيق الإصلاحات الاقتصادية التي يراقبها «صندوق النقد الدولي» منذ العام 2020، وهي تقول إنها توقفت عن طباعة النقود لتمويل العجز وزادت عائدات الدولة الشهرية بنسبة الثلثَين «في الأشهر الستّة الماضية، لتبلغ 264 مليون دولار، بحسب وزير المالية، جبريل إبراهيم. بيد أن التضخّم قاد إلى ارتفاع الإنفاق الحكومي، فارتفعت مثلاً فاتورة رواتب القطاع العام شهرياً إلى ما يقارب 400 مليون دولار (110 ملايين دولار فقط في مطلع العام الحالي)، فيما حذّر «برنامج الغذاء العالمي»، منتصف الشهر الجاري، من أن ثلث سكان السودان يواجهون حالياً انعدام الأمن الغذائي الحادّ.
ويحاول نظام البرهان تنشيط عائدات الحكومة لتعويض نقص العملة الصعبة ومواجهة التحدّيات المقبلة قدْر الإمكان. وفي هذا المسار، تكثّف الشركة السودانية للموارد المعدنية، على سبيل المثال، إنتاجها الذهب وتصديره، ما أرفد الخزينة، بحسب بيانات الشركة، بأكثر من 45 مليون دولار في غضون عشرة أيام من الشهر الحالي، وهي تتوقع أن تحقّق، في الأسابيع المقبلة، عائدات تصدير تتجاوز مئة مليون دولار شهرياً، علماً أن السودان ثاني أكبر منتج للذهب في أفريقيا بعد جنوب أفريقيا.

استدامة «التجاذبات الإقليمية»
يموج فوق المشهد الاقتصادي المركّب تقاربٌ مصري - سعودي ملموس في الملفّ السوداني، ما يشير إلى دفْع القاهرة بقوّة بسياساتها تجاه السودان، والعمل على ما تعدّه من دعائم استقراره. واضطرب مسار المرحلة الانتقالية خلال هذا الشهر، مع تناقض تقارير استقالة المبعوث الأممي، فولكر بيرتس، على خلفية عدم شفافية مسار الحوار الوطني، فيما أعلن ممثّل «الاتحاد الأفريقي»، محمد بلعيش، تعليق مشاركته في «بعض أنشطة» الآلية الثلاثية، بسبب ما وصفه بـ«انعدام الشفافية»، وسط إشارته إلى استمرار الحوار الثنائي بين قوى «الحرية والتغيير» والمكوّن العسكري في مسار موازٍ. ولكن مكتب «الاتحاد الأفريقي» عاد ونفى انسحابه، في حين صدرت تصريحات شديدة من قيادات في «الحرية والتغيير»، برزت منها مطالبة مسؤولي الاتحاد بـ«تمثيل شعوب القارة، لا أنظمة حُكمها».
وفي ما يبدو اندماجاً سودانياً كاملاً في خطط بناء نظام إقليمي جديد في البحر الأحمر، قال رئيس مجلس إدارة مجموعة «دال» المحلية الضخمة، قبل أسبوع، إن الإمارات ستبني ميناءً جديداً في السودان يطلّ على البحر الأحمر، كجزء من حزمة استثمارات بقيمة 6 مليارات دولار، تشمل أيضاً منطقة تجارة حرّة ومشروعاً زراعياً موسّعاً ووديعة فورية في المصرف المركزي السوداني بقيمة 300 مليون دولار، هي الأولى من نوعها منذ الانقلاب الأخير. ويقع الميناء المقترح، وفق مذكّرة التفاهم التي وُقّعت بالفعل مع المستثمرين الإماراتيين على رغم نفي شركة أبو ظبي القابضة التوصّل إلى اتفاق نهائي، على بعد 200 كيلومتر شمال ميناء بورتسودان، ما يعني قربه الشديد إلى سواحل مصر الجنوبية، واحتمال ربطه بخطوط ملاحة ثنائية للتبادل التجاري من جهة، وتبنّي نظام البرهان سياسات اقتصادية أكثر دينامية وتفهماً للتغيرات الجذرية في حوض البحر الأحمر، من جهة أخرى.
تكرّرت، منذ أسابيع قليلة، التظاهرات وحوادث العنف الفردية في الخرطوم وفي إقليم دارفور


أمّا إثيوبيا التي تواجه موجة جديدة من الضغوط الأوروبية لضبط سياساتها الداخلية والخارجية، لا سيما في ملفّ «سدّ النهضة»، فإنها لجأت، منذ تشرين الأول، في مقاربتها الشأن السوداني، إلى محاولة إثارة الاضطرابات بوجه نظام البرهان، خصوصاً بعد تداعي جهود أديس أبابا في إرفاد المكوّن المدني بأيّ دعم ملموس. وآخر هذه المساعي تجلّى قبل يومين، مع إقدام قوات إثيوبية على قتل 8 سودانيين (7 جنود ومدني واحد) والتمثيل بجثثهم علناً، ما دفع إلى تصعيد إضافي بزيارة البرهان إلى المنطقة الحدودية الأقرب إلى مكان الحادث، وتعهدّه بالردّ. ما يلفت النظر أن هذا التصعيد الإثيوبي الذي سيكون له ما بعده، جاء بعد ساعات قليلة من إعلان اللجنة الفنية لترسيم الحدود الإدارية في ولايات السودان الشرقية الثلاث، تشكيل لجنة في الولاية لاستعادة أسماء المناطق السودانية في منطقة الفشقة تحديداً، ثم القيام بعملية مماثلة في كسلا وولاية البحر الأحمر، وإنهائها أولى جولاتها الاستكشافية في ولاية القضارف، وسط دعوة المزارعين الحكومة السودانية إلى حمايتهم من الميليشيات والمزارعين الإثيوبيين. وتصاعد التوتر بين البلدين، أمس، باستدعاء السودان سفيره من أديس أبابا لغرض «التشاور»، واستدعاء السفير الإثيوبي لديه للاحتجاج، في تكرار لما سبق حدوثه في آب 2021.

«30 يونيو»: هل يلوح تغيير في الأفق؟
تكرّرت، منذ أسابيع قليلة، التظاهرات وحوادث العنف الفردية في الخرطوم وفي إقليم دارفور. وقد خرجت تظاهرات متفاوتة الحجم في العاصمة، لا سيما في أم درمان وبحري وجنوب الخرطوم، وفي ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، تزامناً مع انتهاء امتحانات المدارس الثانوية قبل نحو أسبوع. كذلك، استمرت الاحتجاجات في ولاية البحر الأحمر للمطالبة بتعويضات عن تشييد طريق سريع يربط بين طوكر وسواكن، وتنفيذ الحكومة عدداً من مشروعات التنمية. وعلى رغم رمزية الدعوة إلى «مليونية 30 يونيو» بهدف «تصحيح المسار»، في ظلّ انخراط قوى «الحرية والتغيير» أكبر في حوار مع المكوّن العسكري، فمن غير المتوقَّع أن تحشد هذه التظاهرات العدد المتوخّى، بالنظر إلى اعتبارات عدّة، من بينها أن الجهات الموقِّعة على بيان الدعوة الذي صدر مساء أوّل من أمس، هي أقرب إلى تجمّعات للأحياء، لا ترقى إلى مستوى العمل الولائي والوطني العام، إضافة إلى تراجع مقبولية الحراكات الاحتجاجية الشاملة، لمصلحة تبنّي مقاربات أكثر واقعية تتيح تجاوز المرحلة الانتقالية بأقلّ الخسائر الممكنة. ويُضاف إلى ما تَقدّم أن دعوة «قوى الإجماع الوطني»، السفير السعودي في الخرطوم، علي بن حسن جعفر، إلى وقف جهوده المشتركة مع عدد من الديبلوماسيين الأميركيين في عقد محادثات ثنائية بين الفصائل السياسية والعسكرية المتنازعة، لم تجد آذاناً صاغية.

خلاصة
يستمرّ حضور الدور الأميركي في الأزمة السودانية فاعلاً، على رغم التحوّلات الأخيرة في ظلّ ما يَرِدُ عن تعاون نائب رئيس «مجلس السيادة»، محمد حمدان دقلو، مع مجموعة «فاغنر» الروسية في عدد من دول الجوار وداخل السودان نفسه. وأشارت ملاحظات الولايات المتحدة على بيان مجلس الأمن حول السودان، قبل أسبوع، إلى التزامها بتسهيل العملية السياسية «التي يقودها السودانيون لحلّ الأزمة»، عقب انقلاب تشرين الأوّل 2021، ما يعني التسليم ضمنياً بدور المكوّن العسكري. وربطت واشنطن بين التقدّم في دارفور وإعادة إرساء حكومة انتقالية مدنية، وتبنّت خطاباً ناعماً تجاه تأجيل تطبيق «اتفاق جوبا للسلام»، وسط دعوتها السلطات السودانية والحركات المسلحة الموقّعة على الاتفاق إلى الانخراط في عمليات نزع السلاح وعدم الاحتشاد وإعادة الدمج في القوات المسلحة، وهي خطوات يَصعب تحقّقها، لا سيما في ما يخصّ مسألة إعادة هيكلة القوات المسلّحة، وما يرتبط بها من ضبط موازنة السودان في المقام الأوّل.
وعلى رغم قرار واشنطن، في نهاية أيار، تعليق مساعدتها للسودان التي أُقرّت بمقتضى اتفاق الخرطوم على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، يتّضح من تشابك الأدوار العربية والأميركية في الملفّ المحلّي، أن الفوضى الحالية قد تفضي، في النهاية، إلى نجاح «مجلس السيادة» في تجاوز حراك «30 يونيو» من دون خسائر كبيرة.