على بعد 4 كلم من المسجد الأقصى، وخلف جدار الفصل العنصري، يعلو صوت الدحية البدوية من بيوت الشعر والبركسات، في تلك الأعراس الصيفية، التي تتوزع فيها المناسف بين الضيوف وأهل العرس. فالقدس، وعلى عكس الصورة النمطية عنها كمدينةٍ تسكنها عائلات مدنيةٌ، يرتبط بها قضاءٌ يضم أكثر من 50 قرية، تحوي باديةً من أكبر بوادي فلسطين، وأكثرها أهميةً جيوستراتيجية، تسكنها العديد من العشائر الفلسطينية منذ قرون، وفي هذه المادة سنتحدث عن «بادية القدس»، أو التجمعات البدوية شرق القدس.
خلفية تاريخية
من ناحية تاريخية، نحن هنا نتحدث عن منطقة ضمن قطاع جغرافي كبير، كان يُعرف في الأدبيات التي تحدثت عن فلسطين وجغرافيتها في الأربعينيات والخمسينيات ببرية القدس والخليل أو بادية القدس والخليل، وهو قطاع جغرافي ممتدّ على طول امتداد السفوح الجبلية شرق القدس وبيت لحم والخليل، بمساحة عرضية تبلغ 25 كلم ومساحة كلية تُقدر بـ 1045.4 كلم2. وبفعل الطبيعة المقفرة، التي لا يوجد فيها إلا النباتات البعلية، ونظراً إلى وعورتها فإنها بقيت غير مسكونة طوال الفترات التاريخية المتعاقبة على فلسطين ولم يعمرها سوى البدو، لأنها تناسب حياتهم المعتمدة على الرعي والسكن المتباعد، والمتصوّفة الباحثين عن الهدوء والعزلة.

سكان التجمّعات البدوية
سكنت العديد من العشائر العربية الفلسطينية التجمعات البدوية، شرق القدس، قبل الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، في عام 1967، ومن أهم تلك العشائر: عرب الكعابنة، وعرب الجهالين، وعددٌ من بطون عرب التعامرة، وعرب بني عبيد، الذين سكنوا العبيدية لاحقاً، وتسمّت باسمهم، وبحسب مصطفى مراد الدباغ في كتابه «بلادنا فلسطين»، فقد بلغ عدد سكان بادية القدس في عام 1945، نحو 7070 نسمة. شهدت بادية القدس تحولاً ديموغرافياً بعد عام 1948، بعد أن هجّرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عرب الجهالين من تل عراد، في النقب المحتل، ليتفرقوا بين الأردن ومناطق الضفة الغربية، ولكنّ الغالبية العظمى منهم انتقلت للسكن بجوار أبناء عمومتهم في بادية القدس، ليصبح عرب الجهالين، هم المكوّن الرئيسي للقبائل العربية الساكنة في بادية القدس.
اليوم يبلغ تعداد البدو المقدسيين في التجمعات البدوية، شرق القدس (نحن نتحدث هنا عن تلك التجمعات الممتدة من بين العيزرية، وسفوح الجبال الشرقية المطلّة على البحر الميت)، بحسب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض المحتلة (أوتشا) التابع للأمم المتحدة، نحو 7000 نسمة، تتوزع على 26 تجمعاً بدوياً.

الاستيطان الصهيوني
من خلال تتبّعنا لمسار الاستيطان والوجود الصهيوني في منطقة الخان الأحمر وما حولها من المناطق القريبة من البحر الميت، نلاحظ أن الوجود الاستيطاني، أو الميل للاستيلاء على أي مساحة هناك، كان معدوماً حتى عام 1974، وقد يفسر ذلك بتصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية في الأغوار الفلسطينية وضفة البحر الميت الغربية خلال الفترة بين عامي 1968 و1970، التي بلغ عددها، كما يشير الباحث يزيد الصايغ في كتابه «الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية 1949 - 1993» نحو 1093 عملية. وفي سياق آخر، قد يفسر بداية النشاط الاستيطاني في بادية القدس، والقدس عموماً، بالتوجه الصهيوني العملي لتطبيق توصيات لجنة جافني الوزارية في عام 1973 برئاسة غولدا مائير، التي أوصت بزيادة عدد المستوطنين الصهاينة في القدس لزيادة نسبتهم بالنسبة إلى إجمالي السكان هناك.
نلاحظ أن الوجود الاستيطاني، أو الميل للاستيلاء على أي مساحة هناك، كان معدوماً حتى عام 1974، وقد يفسر ذلك بتصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية في الأغوار


ومع بداية عام 1975، وعلى عكس كثير من المناطق في الضفة الغربية التي بدأ النشاط الاستيطاني الفعلي فيها خلال الثمانينيات، وفي تاريخ 24/11/1974، أنشأت الحكومة الصهيونية منطقة صناعية في الشمال الغربي من منطقة الخان الأحمر تحت اسم «ميشور أدوميم» التي تحولت لاحقاً إلى مستوطنة صناعية. وتلتها معاليه أدوميم في عام 1978 والتي أعلنها الاحتلال كمدينة ضمن ما يسميه بالقدس الكبرى في عام 1992. ويظهر بوضوح مركزية تلك المنطقة للاستهداف الاستيطاني من خلال ذكر المخططات فيها ضمن المخططات الهيكلية الصهيونية كافة لمدينة القدس، وتصاعد عدد الوحدات الاستيطانية المبنية فيها. فخلال عامي 2016 و2017 فقط، بلغ عدد الوحدات الاستيطانية المنشأة في «تجمع أدوميم» في كل من «كفار أدوميم» و«معاليه أدوميم» و«ميشور أدوميم» نحو 3365 وحدة استيطانية، فيما بلغ عددها 1395 بين عامي 2018 و2019. وترافقت تلك الحملة الاستيطانية المسعورة مع الاستهداف المستمر لمختلف تجمعات الخان الأحمر، إذ يمارس الاحتلال العديد من عمليات التهجير ومحاولة الحد من حركة البدو وأماكن تواجدهم في التجمعات البدوية في القدس.

سياسات التهجير
ارتبط الاستهداف الاستيطاني لبرية القدس بعمليةٍ ممنهجةٍ لتهجير البدو المقدسيين وإزاحتهم من مناطق رعيهم وسكنهم، نحو المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية في أبو ديس والعيزرية ومحيطهما، مع ما يرافق ذلك من تغيير قسريٍ لثقافة هؤلاء البدو الفلسطينيين، المرتبطة بالرعي وحياة البدو. ولتحقيق تلك السياسات، سار الاحتلال في عدة مسارات، منها الاستهداف المتكرر لبيوت الأغنام والمدارس، وخزانات الماء في التجمعات البدوية، وفي الوقت ذاته استغلّ الاحتلال اتفاقية أوسلو من أجل تطبيق سياسة تهجير جديدة بحق أهالي التجمعات البدوية في القدس. ففي عام 1995، ومع بدء تطبيق قرار إعادة انتشار جيش الاحتلال، نُفذت عملية تهجير قسري طاولت نحو 2000 مقدسي، تم نقلهم إلى 3 مناطق وهي: الخان الأحمر، بين القدس وأريحا، على الجهة الشرقية لطريق المعرجات (الطريق الرقم 1)، وشرق بلدة عناتا، شمال القدس، حيث تتوجد تجمعات مثل تجمع أبو بيوك البدوي، وشرق منطقة أبو ديس، في موضعين بعيدين عن مستوطنات الاحتلال الصهيوني في تجمع «أدوميم». وفي السياق ذاته، أنشأ الاحتلال تجمّع جبل البابا في عام 1997 في محاولة منه لتهجير جزء من عرب الجهالين إلى منطقة العيزرية وأبو ديس، وتتكرر سنوياً عمليات الهدم للمنشآت المختلفة في التجمعات البدوية كمدرسة تجمع أبو نوار التي هُدمت خلال العام الماضي عدة مرات وأعادت جهات أوروبية بناءها.

الدعم الأوروبي
يقدم الاتحاد الأوروبي دعماً متواصلاً لسلطة أوسلو تحت بند دعم وإغاثة التجمعات البدوية في الخان الأحمر، ويقدم ما يصل إلى الخان الأحمر من هذا الدعم لإعادة ترميم ما يهدمه الاحتلال بشكل مستمر من بيوت ومدارس، وبخاصة في التجمعات الأكثر استهدافاً كتجمع أبو نوار الواقع في الوادي الواصل بين مستوطنتي معاليه أدوميم وكفار أدوميم. يفتقر هذا الدعم إلى تلبية احتياجات الصمود والاكتفاء الذاتي لسكان التجمعات البدوية، ومراعاة الموروث الثقافي لهم، والذي يقوم على حياة التنقل والبداوة طلباً للمرعى، كما أن مشاريع التنمية الزراعية للمحاصيل العلفية ومشاريع الإنتاج الحيواني المعتمدة على حليب الأغنام ولحومها لا تقدم ضمن حزم المشاريع التي تنفذها سلطة أوسلو بتمويل من الاتحاد الأوروبي.

الخان الأحمر والانتصار الجماهيري
تجمّع الخان الأحمر، واحدٌ من التجمعات البدوية التي سكنها عرب الجهالين المهجّرون من تل عراد، في عام 1950، وبلغ عدد سكان التجمع نحو 146 بحلول بداية عام 2018، وفي تموز من نفس العام بدأت الإدارة المدنية الصهيونية، بصحبة قوات الاحتلال، بترحيل أهالي كامل التجمع إلى منطقةٍ أخرى شرق العيزرية، لتتفجر ملامح حراكٍ شعبيٍ مقدسي فلسطيني، بعد أقل من عام من انتصار هبة باب الرحمة، في المسجد الأقصى. وبعد 3 أشهر من فعاليات الرباط والمقاومة الشعبية، والتضامن، عبر صلوات الجمعة، وخيم الاعتصام، والاشتباك مع قوات الاحتلال، أعلن رئيس وزراء الاحتلال حينها بنيامين نتنياهو عن تجميد قرار إخلاء تجمع الخان الأحمر في 19 تشرين أول 2018. وبالرغم من هذا الانتصار الجماهيري، فإنّ الاحتلال ماضٍ في مخططاته لتهجير وإزاحة المقدسيين البدو عن مضارب الآباء والأجداد.

مصادر:
- مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، ج 8، القسم الثاني، في ديار بيت المقدس (القدس ورام الله وأريحا)، دار الهدى، كفر قرع، طبعة جديدة، 1991.
- معهد الأبحاث التطبيقية – القدس (أريج)، دليل تجمع الخان الأحمر، القدس، 2012.
- براءة درزي، تجمع الخان الأحمر شرق القدس في مواجهة التهجير، مؤسسة القدس الدولية، بيروت، 2018.
- خضر الريس وآخرون، سياسات تعزيز صمود في التجمعات البدوية في القدس، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات، رام الله، 2017.
- وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية – وفا، التجمعات السكانية البدوية الفلسطينية، التجمعات السكانية البدوية في محافظة القدس.
- الأمم المتحدة – مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي المحتلة، التجمعات البدوية التي يتهدّدها خطر التهجير القسري، القدس، 2014.
- مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2016 – 2017، تحرير محسن صالح، بيروت، 2018.
- مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2018 – 2019، تحرير محسن صالح، بيروت، 2020.