بغداد | يثري رمضان في كل عام طقوساً اجتماعية مترسخة في تاريخ المجتمع العراقي، وسط أجواء من البهجة الليلية، على الرغم من نقص الخدمات والقطع المبرمج للطاقة الكهربائية. لم يعتد العراقيون قضاء الشهر الفضيل خارج ديارهم، أو يبقوا حبيسي دورهم، كما أجبرتهم الأوضاع الأمنية هذا العام.
نزوح جماعي، وهروب دائم ومؤقت لعوائل محافظات الوسط والشمال، وقلق وتوتر في المحافظات الأخرى، سلبت العراقيين حلاوة رمضان، وسط تهديدات أمنية وإشاعات تروّج لها بعض وسائل الإعلام عن «غزوة داعش الرمضانية».
في هذه السنة، يشهد العراق رمضاناً ساخناً ذا نهارات طويلة، إذ يصوم العراقيون نحو 15 ساعة وسط درجة حرارة لا تقل عن 48 درجة في أفضل الأحوال، الأمر الذي اضطر الحكومة العراقية إلى تقليص ساعات الدوام في دوائر الدولة ومؤسساتها لساعة أو ساعتين، إضافة إلى مراقبة درجات الحرارة لإعلان اليوم الذي تتجاوز فيه درجات الحرارة 51 درجة مئوية يوم عطلة رسمية في عموم البلاد.

العديد من أطفال
النازحين أصابهم
الإعياء نتيجة ارتفاع
درجات الحرارة
لأول مرة منذ عام 2003 يمر ليل رمضان على بغداد خالياً من الطقوس وبهجة التجوال العائلي بين المطاعم ومحال المرطبات والعصائر والمقاهي، إذ يخيّم القلق على سكان العاصمة جرّاء الأحداث الأخيرة، والتشديدات الأمنية غير المسبوقة، التي ضيّقت على أهالي العاصمة ومنعتهم من التجوال بحرية، وسط استمرار فرض حظر التجوال الليلي ابتداءً من الساعة 12 ليلاً حتى الرابعة صباحاً.
أحد الطقوس الرمضانية التي اعتادها البغداديون والموصليون والأنباريون هي لعبة «المحيبس» الجماعية. و«المحيبس» هي عبارة عن قيام فريق من الشباب بإيجاد الخاتم بين عشرات الأيدي المغلقة لدى الفريق الآخر، وهي تمثل تقليداً عراقياً رمضانياً بحتاً. كانت مناطق بغداد القديمة، كالفضل وأبو سيفين والكفاح والبتاوين، تستعد للتباري قبل هلال شهر رمضان بأيام، إلا أن الظروف الأمنية هذه المرة أفقدت هذا التقليد حماسته، وربما تنحسر في مناطق قليلة، وسط انشغال الجميع بوضع البلد الأمني.
ويقول عيسى الكردي، أحد أبرز لاعبي «المحيبس» في البتاوين، إن «أكثر من نصف فريق المنطقة هجرها صوب كردستان والأردن والإمارات، بعد تأزم الوضع الأمني»، مستبعداً ممارسة هذا الطقس الرمضاني هذا العام.
ويضيف أن «الفرق الأخرى كل عام تقوم بتحديد أيام للتباري معنا قبل شهر رمضان بأسبوع أو عشرة أيام، وها نحن في الأول من رمضان دون أي دعوات».
وقبل أن يهلّ هلال الشهر، شهدت أسواق بغداد غلاءً فاحشاً أثّر في عشرات الآلاف من العوائل المحدودة الدخل، نتيجة احتكار التجار للبضائع، وإغلاق المنافذ الشمالية والغربية للبلد نتيجة الأزمة الأمنية، في وقت كثفت فيه الحكومة العراقية من إجراءاتها للحدّ من الغلاء، لكنها لم تفلح في ذلك.
نازحو المناطق الساخنة كالموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين وكركوك يمرون بظروف إنسانية صعبة للغاية، فهم يقيمون في مخيمات في العراء على حدود إقليم كردستان، تحت لهيب شمس حارقة، ودرجات حرارة مرتفعة، ونقص في الدواء والمياه والغذاء. هم خليط من الطوائف المختلفة النازحة، هربوا من بطش التنظيمات المسلحة والعمليات العسكرية، ليتحول رمضانهم هذا إلى ذاكرة سوداء.
النازحون المقيمون في مناطق لا تصلها تغطية شبكات الهاتف النقال أو الإنترنت، تزورهم فرق الإغاثة الإنسانية يومين أو ثلاثة في الأسبوع، برفقة فرق إعلامية تنقل تقارير مأسوية عن حياتهم، إذ يشير الصحافي علاء الطائي في أحد تقاريره التلفزيونية إلى أن العديد من الأطفال أصابهم الإعياء نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، وتجري معالجتهم بالماء غير الصالح للشرب.
أما الموصل المحتلة من قبل «داعش»، ففقد رمضان لونه فيها، بعد انعدام الحياة في المدينة العريقة بشكل كبير، إذ تشير التقارير الإعلامية إلى وجود نقص حاد في الوقود والغاز السائل (غاز الطبخ)، وقطع الرواتب عن الموظفين، فضلاً عن سطوة المسلحين على معظم مفاصل الموصل المدرّة للدخل.
ويقول الصحافي الموصلي أحمد الشمري لـ«الأخبار» إن أهالي الموصل يخشون مغادرة المدينة، لكن في الوقت الذي لم يعد باستطاعتهم البقاء فيها أكثر من ذلك. ويضيف «أنا على اتصال دائم مع أصدقائي في الموصل، ويؤكدون لي وجود نقص كبير في الخبز والغذاء بصورة عامة، وربما ينفد كل مخزونهم خلال أسبوع أو اثنين»، مبيّناً عدم اكتراث المسلحين بالوضع الذي يمر فيه الأهالي، لإرغامهم على العمل معهم، لأن المسلحين باتوا المصدر المالي الوحيد في المدينة.
وتنتظر الكثير من العوائل العراقية تكرار حالة التكيف النفسي التي حصلت في رمضان الماضي، بعد إعلان تنظيم القاعدة «غزوة رمضان» على الأسواق والمقاهي والمطاعم في العديد من المحافظات، لكن عشرات التفجيرات في الشهر الفضيل من العام الماضي لم تعكر صفو الأجواء الرمضانية في بغداد والمحافظات.