ينقل الباحث البريطاني جون ويلكنسون في كتابه «حدود الجزيرة العربية: قصة الدور البريطاني في رسم الحدود عبر الصحراء» أنه وأثناء التفاوض على رسم الحدود بين العراق وإمارة ابن سعود (وهي المفاوضات التي أفضت إلى إنهاء مسلسل جرائم عصابات «الإخوان» الوهابية بحق العراقيين)، كان مطلب إمارة نجد اقتطاع مناطق شاسعة من المشرق العربي تشمل الأراضي الواقعة غربي نهر الفرات وصولاً إلى حلب السورية، وضمّها إلى الكيان السعودي. حجّة ابن سعود في المفاوضات وقتها كانت وجود قبائل في تلك المنطقة على ترابط مع قبائل نجد. اليوم وبعد عقود على مؤتمر العقير (تشرين الثاني 1922) اختلفت حجة التدخل السعودي بالعراق عموماً وغربه خصوصاً، لتحلّ المذهبية مكان القبلية.
بعد عام 2003، أنست هويات القوى العراقية الصاعدة إلى سدة الحكم في أعقاب الغزو الأميركي، فرحة السعودية بالتخلص من نظام صدام حسين. عادت بالفشل كل محاولاتها لدعم توجه يعادي إيران للفوز بالانتخابات واستلام السلطة، فراحت تراكم الأحقاد تجاه بغداد، وهو ما تجلّى في استمرار القطيعة الدبلوماسية مع العراق برغم مرور سنوات على انتفاء أسبابها الظاهرية، وارتفاع منسوب التوتر بين البلدين في ولايتي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
التصدي للتدخلات
السعودية عرف تحولاً كبيراً
مع مغادرة المالكي

في الواقع، الخيار السعودي لمرحلة ما بعد الغزو لم يكن يوماً الانكفاء ونسيان العراق، وتجاهل ما يدور خلف أسوار حدّها الشمالي من أحداث. بقي ما تردّده شريحة واسعة من العراقيين عن دور سلبي للمملكة على الساحة العراقية، في غمرة الخضّات الأمنية والسياسية التي لم تهدأ، في مرمى التشكيك والتضعيف والافتقار إلى الوثائق والأدلّة الدامغة في إدانتها، حتى خرجت الوجبة الأدسم لـ«ويكيليكس»، منيطة اللثام عن منظومة سعودية تنشط في الخفاء على غير صعيد. كان النظام السعودي، وفق الوثائق، يوظّف في أيدي حلفائه مختلف أدوات التأثير والنفوذ، من تأشيرات الحج إلى العطاءات المالية الطائلة. تشير إحدى البرقيات مثلاً إلى أن كلاً من أسامة النجيفي، طارق الهاشمي وإياد علاوي، مُنح ألفي تأشيرة خاصة لأداء مناسك الحج خارج الحصّة المقرّرة للعراق. أما البرقية الرقم 341 فكشفت عن استلام أسامة النجيفي لمبلغ 575 مليون دولار من رئيس جهاز الاستخبارات السعودي خالد بن بندر. النفوذ السعودي في العراق يمتدّ، كما أكّدت برقيات الاستخبارات السعودية ووزارة الخارجية، من داخل المؤسسات السياسية والأحزاب إلى شيوخ العشائر ورجال الدين ووسائل الإعلام، ومن أخطرها وثيقة تتحدث عن سعي سعودي حثيث لإجهاض مشروع إنشاء محكمة دولية لمقاضاة الإرهابيين التكفيريين، وذلك مخافة انفضاح تورّط مشايخ الوهابية السعوديين.
قبل أشهر، تحديداً في حزيران الماضي، علّق وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري على مئات آلاف الوثائق التي نشرها موقع "ويكيليكس"، بالقول إن العراق سيتعامل بصورة جدية معها.
لا شك في أن التصدي للتدخلات السعودية في الشؤون العراقية، عرف تحولاً كبيراً مع مغادرة نوري المالكي رئاسة الحكومة. في الواقع لم تجرِ ترجمة عملية وجدية لوعود الحكومة بمتابعة الملف، بل إن عداوة الرياض الشرسة لنوري المالكي، انقلبت إلى مغازلة مع خلفه حيدر العبادي. يتبين من مسار التطورات في العراق، خلال السنتين الماضيتين، أن ملاحظات السعودية على حكومة بغداد، لم تكن للأسباب المعلنة، وعلى رأسها التقارب مع طهران. من الواضح أن مهمّة الرياض، وحلفائها في العراق، كانت أكثر صعوبة مع الحكومة الماضية. ربما التصور الجديد للسياسة الخارجية العراقية لدى الثنائي الجعفري ــ العبادي تقوم على اعتبار أن تخفيف لهجة الخطاب تجاه الرياض، وإعادة العلاقات معها يسهمان في ترميم البيت الداخلي المتداعي. هل فعلاً تغير التعاطي السعودي مع ملف العراق؟ وهل بادلت المملكة اليد العراقية المفتوحة؟ تسأل أوساط معارضة «بهدوء» لسياسة العبادي الخارجية، مؤكدة أن مجريات الأحداث، في الأشهر الماضية، تثبت أن ارتياح السعوديين لإزاحة المالكي ليست في حسابات الرياض سوى فرصة أكبر للتحرك في العراق. تدلل على ذلك جملة من الوقائع بدت فيها السعودية وفق أوساط سياسية عراقية من موقع المتعالي والماضي في أجندته التقليدية.
أما البناء على خطوة تدشين العلاقات الدبلوماسية على أنها انتقال إلى طور إيجابي، فتبددها أمور ثلاثة: اسم السفير السعودي الجديد في بغداد، تحرّكاته وتصريحاته الأولى، والأحداث الساخنة الأخيرة.
لم تخفِ وسائل إعلام موالية للنظام السعودي هوية العميد الركن ثامر السبهان وتاريخ عمله. تصف إحدى هذه المقالات في معرض ذكر «إنجازات» السبهان أثناء خدمته في لبنان، أنه كان صاحب دور فعّال في «مكافحة النفوذ الإيراني» هناك، في إشارة إلى حزب الله، وإلى عدم اقتصار دور السبهان على العمل التقليدي لأي ملحق عسكري في سفارة بلاده. الضابط السبهان ذو تاريخ حافل في مجال العمل الأمني، كما تشير سيرته الذاتية (الخالية من أي تجربة دبلوماسية)، فهو عمل ضابط الأمن والحماية المرافق لقائد القيادة المركزية الأميركية في حرب الخليج الثانية بين عامي 1990 و1991، وكان السبهان مسؤولاً عن حماية عدة مواقع للقوات الأميركية والبريطانية والفرنسية في العاصمة الرياض. تولّى الرجل أيضاً مسؤولية حماية عدد من المسؤولين الغربيين كوزير الدفاع ديك تشيني ورئيس أركان القوات المشتركة (وزير الخارجية السابق) كولن باول.
لم يحدث أن استخدمت بغداد حقّها في الاعتراض على تسمية الرجل المثير للجدل كسفير للرياض لديها، على الرغم من المطالبات الواسعة داخلياً برفض اعتماد السبهان. افتتحت أبواب السفارة في المنطقة الخضراء، وكان ثامر السبهان يباشر أعماله تزامناً مع تجاهل الدعوات العراقية الدينية والرسمية، بعدم إقدام السعودية على إعدام الشيخ نمر النمر. في الوقت الذي كانت فيه بغداد تتجاوب مع تسوية أوضاع السعوديين المحكومين لديها بجرائم الإرهاب.
كان النظام السعودي
يوظّف في أيدي حلفائه مختلف أدوات التأثير والنفوذ

باكورة نشاط السبهان، بحسب المعترضين على السياسة السعودية في العراق، كانت «فتنة» ديالى وما تلاها من تفاعلات ومواقف. سريعاً دخل السفير الجديد على الخط بمواقفه التي هاجمت «الحشد الشعبي» (مراجعة مقابلة السبهان التلفزيونية تؤكد أن مواقفه لم تحوّر أو تقتطع كما أوردت الصحف السعودية). اللافت أن محاولات الخارجية العراقية لاحتواء الغضب من تصريحات السبهان تلقّت ضربة قاسية من الخارجية السعودية التي نفت ما أوردته نظيرتها العراقية، في بيانها الأخير، من أن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في لقائه مع وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري على هامش الاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون العربي ــ الهندي في العاصمة البحرينية المنامة، تبرّأ من تصريحات ثامر السبهان، واعتبر رئيس الإدارة الإعلامية في وزارة الخارجية السعودية أن الحديث تركّز على بحث العلاقات الثنائية، وأن «ما نقل على لسان الجبير غير دقيق»!
فجّرت هذه التصريحات المتنصّلة من كلام الجعفري غضب الممتعضين من سياسة الأخير الخارجية. ائتلاف "دولة القانون" (الذي يقوم بجمع التواقيع لتقديم رسالة رسمية لاستبدال السفير السبهان) علّق على مجريات الأزمة بعبارات قاسية بحقّ الجعفري، الذي اتهمه بأنه ارتكب خطأ كبيراً عندما تحدّث باسم نظيره السعودي. واعتبر الائتلاف، في تصريحات صحافية لأحد أعضائه، أن ما جرى يؤشر إلى «ضعف في الدبلوماسية العراقية»، مسجّلاً على الجعفري خطأه أيضاً «عندما أيّد موقف جامعة الدول العربية ضدّ إيران»، مستطرداً بالقول «السعودية تتخذ موقفاً واضحاً تجاه العراق، الأمر الذي لن يتغير بين ليلة وضحاها، سواء ببقاء سفيرها الحالي أم استبداله». أما كتلة «المواطن» (المجلس الأعلى)، وفي تصريحات مماثلة، فلم تكن أقل قسوة في تقييم أداء وزارة الخارجية التي وصفتها على لسان أحد نوابها بـ«تجمّع فوضوي مترهّل».
في حقيقة الأزمة المستجدّة ما هو أكبر من التفاصيل المُشغلة اليوم. الأخطر في تصريحات السفير السعودي ربما هو ما لم يثر الكثير من الجلبة كمقطع هجومه على «الحشد الشعبي»، حين قال «إنني لمست غضباً من جانب جميع من قابلتهم من السياسيين والأخوة السنّة في العراق على المملكة العربية السعودية» مضيفاً: «قالوا لي أنتم غبتم عنّا وجعلتمونا نواجه مصيرنا وحدنا»، وكأن السبهان يبشّر بكثير من العمل الطائفي بانتظار قناته الدبلوماسية المستحدثة (بدا اتحاد القوى العراقية متحمّساً لتصريحات السبهان أكثر من الأخير نفسه). تصريحات تبدو كافية لتفسير تعقيدات أحداث ديالى والمقدادية، وما تبعها من استثمار استثنائي. ويفسّر أيضاً اتهامات «تدويل قضية ديالى»، التي تلاحق رئيس البرلمان سليم الجبوري في زيارته واشنطن. زيارة حذّر ائتلاف «دولة القانون» من أن تجري في سياق زيارة قائد «سنّي» لا مسؤول رسمي، ونبّه عضو الائتلاف موفق الربيعي الجبوري من مصير مشابه لمصير سلفه أسامة النجيفي، إذا انحرفت زيارته عما هو معلن.
هكذا باتت في جعبة الأوساط المعارضة لسياسة الجعفري في الخارجية المزيد من الأدلّة على فشل سياسة «الانحناءة» أمام الرياض تحت مبرّر «فكّ العزلة العربية»، وهي تتساءل: ما الذي قدّمته هذه السياسة غير المزيد من الكوارث؟؟