منذ إطلاق محمد بن سلمان «رؤية 2030»، ونحن نسمع عن مدينة «نيوم» التي تُعتبر أساس تلك الرؤية، لكن الكثيرين ما زالوا لا يعلمون أين تقع، وعلامَ تشتمل، لأن ما أُنجز حتى الآن، يكاد لا يُذكر. ففي المشروع الرئيس ضمن «نيوم»، أي «المربّعات السكنية» التي تمتدّ على طول 170 كيلومتراً من خليج العقبة إلى عمق الصحراء، ويُسمّى «الخطّ» (the Line) لأنه طولي، لم يتمّ حتى الآن سوى إنجاز البنى التحتية لمربّع واحد هو ذلك الذي سيؤوي موظّفي المدينة، وفق ما تُظهر صور الأقمار الاصطناعية، علماً أن «the Line» يُفترَض أن يكلّف بناؤه 200 مليار دولار، من أصل 500 مليار هي تكلفة «نيوم» بالكامل. لكن هذا كان السعر قبل التغييرات التي استُحدثت على «الخطّ» بطلب من ابن سلمان ليتألّف من برجَين أفقيَّيْن ضخمَين بارتفاع 500 متر على طول عشرات الكيلومترات. وفي الوقت الذي تَعِد فيه «نيوم» بأن تكون أكبر مدينة سياحية في العالم، على مساحة 26500 كيلومتر مربع، وأن تجتذب خمسة ملايين سائح بحلول عام 2030، فإن الواقع هو أنها قبل هذا بكثير تحوّلت إلى مدينة طاردة لكبار الكوادر التي يُفترض أن يقع على عاتقها بناء المدينة، حيث تَشهد عملية فرار جماعي لكبار الموظفين الأجانب، الذين «طفشوا» من سوء خُلُق الرئيس التنفيذي للمشروع، نظمي النصر، المُعيَّن من قِبَل ابن سلمان في هذا المنصب، بسبب ظروف العمل غير المريحة، وحالات التحرّش الجنسي من كبار المديرين بحقّ موظفات. تَنقل تقارير صحافية غربية عن موظفين حاليين وسابقين قولهم إن النصر غالباً ما يوبّخ ويخيف موظفيه. ولذا، فقدت «نيوم»، تحت قيادته، العشرات من المديرين التنفيذيين الوافدين من قوّتها العاملة التي يبلغ قوامها 1500 فرد، استقال الكثيرون منهم أو طُردوا من العمل منذ أن تمّ استقطابهم من شركات مثل «والت ديزني» و«سيمنز إيه جي» و«ماريوت الدولية». واستقال أندرو ويرث، في صيف 2020، من رئاسة منتجع «تروجينا» الجبلي المخطَّط له في «نيوم»، وهو أحد أكبر المشاريع في المدينة ويتضمّن منحدرات للتزلج، مشيراً في خطاب استقالته إلى أن النصر ينفجر باستمرار في نوبات غضب غير ملائمة مهنياً.
حتى الآن، لم يرَ المتابعون لـ«نيوم» سوى الجوانب السيّئة منها، لكن أسوأ تبعاتها حتى الآن كان طرد «السكّان الأصليين» من عدد من قرى محافظة تبوك التي ستُقام فوقها مدينة ابن سلمان، في استلهام لأسوأ النماذج التهجيرية والاستيطانية في العالم، مِن مِثل طرد الهنود الحمر من بلداتهم في الولايات المتحدة، أو تهجير الفلسطينيين من أرضهم لإحلال المستوطنين الإسرائيليين مكانهم، أو طرد «الأب أوريجينز» في أستراليا من قِبَل مستعمِريها البيض. وفي حالة «نيوم»، جرى طرد نحو 20 ألفاً من أفراد قبيلة الحويطات من منازلهم، بلا تعويض مناسب، وتمّ هدم تلك المنازل في بعض القرى التي يسكنها أجدادهم منذ عشرات السنين لإحلال «شعب المليارديرات» مكانهم. وقُتل ابن القبيلة، عبد الرحيم الحويطي، من قِبَل قوات الأمن بدم بارد بعد رفضه مغادرة منزله.
كل هذا يحصل بينما يعِد ابن سلمان المستثمرين بنظام قضائي خاص في «نيوم» يصوغونه بأنفسهم، ويكون منفصلاً عن النظام القضائي السعودي الذي يَستخدمه للبطش بمعارضيه، الذين يُقتلون ويُسجنون من دون ارتكاب أيّ جريمة، أحياناً لمجرّد تغريدة تتضمّن رأياً لا يعجب السلطات من ناشط أو رجل دين. ولدى إخضاع هذا النظام القضائي المزمع لاختبار صغير من قِبَل أحد الصحافيين في «منتدى دافوس»، حين سأل عمّا إذا كانت السعودية ستسمح باستهلاك الكحول في المدينة، جاء الجواب من مساعدة وزير السياحة السعودية، هيفاء بنت محمد آل سعود، بأن المملكة لن تغيّر القوانين التي تحظر الكحول على أراضيها، على رغم ما تداولته تقارير صحافية حول إمكانية أن تتمّ إعادة النظر في هذه المسألة في «نيوم».
سوء خلُق نظمي النصر «يطفّش» كبار الموظفين الأجانب


بالإضافة إلى «الخطّ» ومنتجع «تروجينا» الجبلي، يُعتبر مشروع مدينة «أوكساغون» العائمة، واحداً من أكبر المشاريع في «نيوم»، وهو مركز صناعي يمتدّ مسافة 7 كيلومرات داخل المياه، ما يجعله أكبر مبنى عائم في العالم. وفي هذا المشروع، كان النصر قد أعلن أن «أوكساغون سترحّب بأوّل مستأجريها في بداية عام 2022»، وهو ما لم يحصل. يقول موقع «نيوم» إن المدينة ستكون واحدة من أوليات مدن العالم من حيث الاكتفاء الذاتي غذائياً من خلال استخدام الزراعة العمودية والدفيئات الزراعية، لكن ثمّة تساؤلات كثيرة حول ما إذا كان يمكن بلوغ هذا الهدف، على اعتبار أن المملكة تستورد الجزء الأعظم من حاجاتها الغذائية. أمّا في ما يتعلّق بالطاقة المتجدّدة التي يتحدّث عنها مخطّط المدينة، ولا سيما المباني التي تعمل بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وكذلك محطّات تحلية المياه الخالية من الكربون، للمحافظة على 95% من البيئة، فيشكّك خبراء في إمكانية تحقيق الغاية المذكورة أيضاً، إذ لم يحالف النجاحُ سابقاً محاولات استخدام الطاقات المتجدّدة في محطّات تحلية المياه. والمملكة دولة قاحلة يتمّ إنتاج أكثر من نصف مياهها من محطّات التحلية التي تعمل بالوقود الأحفوري الملوِّث للبيئة، وأيضاً للمياه من خلال إلقاء المحلول الملحي الناجم عن التحلية في البحر مرّة أخرى، ما يؤثّر سلباً على البيئة البحرية.
ويبدو أن المشروع بمجمله، إذا كُتب له النجاح، سيعود بالنفع على الأثرياء وحدهم. وتحدّثت تقارير عن بناء قصور للأسرة المالكة في «نيوم»، كما تُظهر صور الأقمار الصناعية مهبطاً للطائرات المروحية وملعباً للغولف من بين مشاريع البناء الأولى، وذلك على رغم حديث عضو المجلس الاستشاري في «نيوم»، علي الشهابي، المقرّب من وليّ العهد محمد بن سلمان، عن أن المدينة ستؤوي الجميع «من العمال إلى المليارديرات». قد تمثّل الطفرة النفطية الحالية فرصة لابن سلمان لإنقاذ مشروع مدينته مؤقّتاً. وبالفعل، يقول مسؤولون سعوديون إن بعض فوائض أموال النفط الناجمة عن ارتفاع الأسعار ستصبّ في بناء «نيوم» التي يملكها صندوق الاستثمارات العامة برئاسة ولي العهد. لكنّ مشكلة المشروع ليست في التمويل فقط، بل في وظيفته أساساً، إذ إن نجاح المدينة يتوقّف على تحقيق هدفها النهائي بالتحوّل إلى مركز مالي، وهو ما لا تشجّع عليه البيئة الثقافية في السعودية، ولا سيما أن مشاريع أخرى أصغر حجماً فشلت في تحقيق أهدافها، ومنها على سبيل المثال، المركز المالي، شمال الرياض، الذي بُني في عهد الملك عبدالله بكلفة مليارات الدولارات، ويحاول صندوق الاستثمارات حتى الآن، من دون جدوى، بيع مجموعة مكاتب فيه.
لم يسبق أن شهد تاريخ الدول إقامة مدينة بهذا الحجم دفعة واحدة، من دون أن تتطوّر بشكل طبيعي عبر السنين. وحتى دبي، التي يبدو أن ابن سلمان يريد أن يأخذ دورها، مدينة قديمة يعود تاريخها إلى ما قبل عام 1580، وتطوّرت بشكل طبيعي، لكن مسارها هذا شهد تسارعاً مع الطفرات النفطية التي شهدها العالم بدءاً من سبعينيات القرن الماضي، حينما لم تستطع السعودية، بسبب طبيعتها المحافِظة آنذاك، تلبية حاجة رجال الأعمال العاملين في قطاعات النفط وما يرتبط بها، في المملكة بالذات. فما الهدف الذي ستخدمه «نيوم» اليوم ويبرّر كلفتها الباهظة؟