قبل نحو شهر، التقى وفد أمني وعسكري تركي، «أبو محمد الجولاني»، في لقاء مغلَق حضرته دائرة ضيّقة جداً، الأمر الذي منع تسرّب معلومات عن فحواه، غير أن ما تبعه أوضح كثيراً من التفاصيل. جاء الاجتماع حينها في وقت كانت تشهد فيه مناطق سيطرة الفصائل الموالية لتركيا إحدى جولات الاقتتال الداخلي الدائمة، بعد إجراء تغييرات في هيكلية الارتباط التركي بها، حيث تمّ استبعاد عدد من ضباط الاستخبارات وتعيين ضباط جدد، الأمر الذي فُسّر في ما بعد على أنه تمهيد لفتح الباب أمام الجولاني للتمدّد إلى ريف حلب، بهدف توحيد مناطق نفوذ أنقرة التي تتضمّن إدلب ومناطق في ريف حلب وريف الرقة. وجرى ذلك بالتوازي مع عمليات هيكلة في «الائتلاف السوري» المعارض، تمهيداً لتشكيل كيان سياسي يمكنه تمثيل تلك المناطق في مسارات التفاوض السياسية، بما يضمن لتركيا التخلّص من المبالغ الكبيرة التي تدفعها للفصائل التابعة لها (كون الجولاني يعتمد على التمويل الذاتي عن طريق سيطرته على مفاصل الاقتصاد ومعابر التهريب في مناطق نفوذه)، ويوفّر لها أرضية ملائمة لإقامة مشاريع سكنية لإعادة توطين اللاجئين السوريين قرب الشريط الحدودي، لضمان إبعاد الأكراد من جهة، وتجذير السيطرة التركية على الشريط الحدودي من جهة أخرى.وواجهت تركيا لتنفيذ مشروعها هذا مجموعة من المعوّقات، أبرزها مقاومة بعض الفصائل التي ترغب في السيطرة على المشهد، بالإضافة إلى حالة الجولاني المُصنَّف على لوائح الإرهاب. كذلك، تشكّل إدلب حالة معقّدة بسبب الوجود المتشابك للفصائل المتشدّدة فيها، والتي تعهّدت تركيا بعزلها والقضاء عليها، مقابل تعهّدات روسية بإبعاد «خطر الأكراد» مسافة 32 كلم عن الحدود التركية، ما شكّل عقدة ربط بين ملفّات شماليّ وشمال شرقيّ حلب (منبج وتل رفعت اللتين تسيطر عليهما قوات سوريا الديموقراطية)، وإدلب التي يسيطر عليها الجولاني. وأمام المماطلة التركية في الوفاء بتلك التعهّدات، شهد ملفّ ريف حلب حالة «ستاتيكو» يبدو أنها كانت مرغوبة من موسكو، التي شدّدت في مواقف عديدة على ارتباط هذا الملفّ بإدلب، ما يعني أن أيّ تحرّك في إحدى المنطقتَين يتبعه تحرّك مماثل في المنطقة الأخرى. وحاولت تركيا، خلال العامَين الماضيَين، تكثيف عمليات «تبييض» الجولاني، كما فتح الرجل لنفسه قنوات تواصل مع الاستخبارات البريطانية والأميركية، وقدّم لواشنطن معلومات هامّة مكّنتها من القضاء على زعيمَي تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي وبعده أبو الحسن القرشي.
مع تعثّر جهود أنقرة لاستثمار الظروف الدولية عاد إردوغان للحديث عن التعهّدات الروسية


وخلال الأسبوعَين الماضيَين، ومع تعثّر جهود أنقرة لاستثمار الظروف الدولية التي خلقتها الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث قوبلت تهديدات الرئيس التركي بشنّ عمليات عسكرية ضدّ «قسد» على طول الشريط الحدودي لإقامة «منطقة آمنة»، بعدم قبول أميركي ورفض روسي مبدئيّ، تبعه حشد الجيش السوري قواته على تخوم مناطق عديدة لمنع أيّ تقدّم تركي، عاد إردوغان مرّة أخرى للحديث عن التعهّدات الروسية بإبعاد «خطر الأكراد»، معتبراً أن عدم الوفاء بهذه التعهّدات يفتح الباب أمام قواته لـ«إبعادهم بالقوة»، الأمر الذي ردّت عليه موسكو بالإشارة إلى ارتباط هذا الملفّ بملف إدلب. ولا يُعتبر الحديث عن ارتباط الملفّات أمراً طارئاً أو غير متوقّع بالنسبة إلى أنقرة، وهو ما يفسّر اهتمامها المتزايد بتلميع صورة الجولاني في هذه الفترة، وبشكل خاص قبيل عقد لقاء أستانة الذي يناقش الهجوم التركي المفترَض. واستعدّت تركيا للقاء عبر سلسلة من الإجراءات الاستباقية، أبرزها تكثيف الجولاني عمله على إنهاء وجود فصائل متشدّدة صغيرة منتشرة في إدلب، بالإضافة إلى تكثيف ظهوره الإعلامي كـ«رجل دولة»، لتأتي الزيارة التي قام بها الأسبوع الماضي إلى جبل السماق الذي تقطنه أقلّية درزية في إدلب تتويجاً لتلك الحملة، حيث ظهر خلال افتتاح بئر ماء إلى جانب وجهاء من الدروز، مقدِّماً لهم اعتذاراً غير مباشر عن المجازر السابقة التي ارتكبتها قواته، معتبراً أن تلك المرحلة انتهت وأنه «لا إكراه في الدين»، وفق تعبيره.
وبينما كانت الوفود المشاركة في لقاء أستانة تحطّ رحالها في نور سلطان، أعلن الجولاني القبض على شبكة تنتمي إلى تنظيم «داعش»، كدليل على وفاء أنقرة بتعهّداتها، أملاً في حصر المحادثات بمنطقتَي منبج وتل رفعت، وتحميل موسكو مسؤوليتهما. وفي السياق نفسه، من المتوقّع أن يكثّف الجولاني ظهوره الإعلامي خلال الأسبوعَين المقبلَين، وأن يرفع من وتيرة حربه التي يشنّها على الفصائل المنتشرة في مناطق سيطرته في نطاق «محاربة الإرهاب»، أملاً في أن يسهم هذا النشاط في زيادة الضغوط على موسكو لتمديد آلية إدخال المساعدات القائمة في الوقت الحالي عبر الحدود وخطوط التماس، والتي تضمن للجولاني إدخال مساعدات عبر معبر باب الهوى الذي تسيطر عليه «تحرير الشام»، وهو ما ترفضه دمشق وموسكو. وكانت واشنطن تعهّدت، بموجب الآلية التي تنتهي مفاعيلها في تموز المقبل، بتقديم دفعة إنعاشية لـ«التعافي المبكر» ودعم مشاريع متعلّقة بإعادة الإعمار، وهو ما لم تفِ به، فيما تحاول اليوم، ومعها دول في الاتحاد الأوروبي وتركيا، تمديد القرار.
اللافت في التطورات الميدانية الأخيرة، رفع أنقرة وتيرة قصفها لمناطق في محيط منبج، سعياً لاستدراج مواجهة تبرّر لها التوغّل في تلك المناطق، في وقت كثّف فيه الجيش السوري حضوره، وسط دخول المزيد من القوات الروسية التي تقوم بتسيير دوريات عسكرية. وبالتوازي مع ذلك، ارتفعت الأعلام السورية على عدد من المنشآت في منبج، وفق مصادر ميدانية تحدّثت إلى «الأخبار»، في خطوة مشابهة لما شهدته تل رفعت قبل أيام، في ظلّ ترقّب لما سيؤول إليه موقف «قسد»، التي تعيش حالة تخبّط بين تيّاراتها الداخلية هذه الفترة، وتواجه ضغوطاً أميركية لمنع تسليم مناطقها لدمشق.