تونس | مع إعلان رئيس اللجنة المكلّفة بالإصلاحات الدستورية والقانونية، العميد الصادق بلعيد، أن التوجّه العام في النصّ الجديد للدستور التونسي سيرجّح كفّة العلمانية بفصْل الدين عن الدولة، وإلغاء النصّ على الدين الرسمي للبلاد، يكون الرئيس قيس سعيد قد انتقل من مربّع السعي لسحب بساط الشرعيّة الدينية من تحت أقدام الإسلاميين، عبر تقديم نفسه بوصفه شخصاً متديّناً، إلى مربّع مغازلة «التقدّميين» والعلمانيين. هكذا، يستخدم سعيد الأسلوب نفسه الذي انتهجته «النهضة» إبّان عملية كتابة الدستور ما بين عامي 2012 و2014، حيث عملت على إلهاء التونسيين عبر بناء استقطاب ثنائي يقسمهم ما بين مؤيّدين لتحكيم الإسلام ومعارضين له. وكانت «النهضة» استخدمت هذه التقنية في سنوات الانتفاضة الأولى لضرب معارضيها ووصمهم بالإلحاد ومعارضة تضمين الشريعة، مُصدِّرة خطاباً تحريضياً يُنظر إليه على أنه وفّر غطاءً لاغتيال رمزَين من رموز اليسار كانت تتّهمهما الحركة بعرقلة المشروع الإسلامي ومعاداة الدين.إثر ذلك، برز خطاب مناقض تماماً لخطاب «النهضة»، إلّا أنه قائم على الثُّنائيّة نفسها، أي التقدّميين ضدّ الإسلاميين، وهو ما جلب تعاطفاً شعبياً للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وأتاح لحزبه حصْد 89 مقعداً في البرلمان في انتخابات 2014. آنذاك، صَوّت التونسيون بكثافة في إطار ما يُعرف بـ«التصويت المفيد»، والذي وُجّه للجم تغلغل الإسلاميين في البلاد، الأمر الذي أفقد «النهضة» قرابة العشرين مقعداً. لكنّ السبسي سرعان ما أعلن تحالفه مع الحركة، بل وتَبيّن أنه كان اتّفق معها، قبل الانتخابات بسنة كاملة، على تقاسم الحُكم. أمّا في انتخابات 2019، فلم يَعُد لخطاب الاستقطاب بين الإسلاميين والتقدّميين أيّ مصداقية، ولذا، فقد خسر «نداء تونس» - حزب السبسي - كامل وزنه الانتخابي، واحتفظ بثلاثة مقاعد فقط، فيما ابتدعت «النهضة» استقطاباً جديداً، يمكّنها من استرضاء قواعدها الغاضبة من ابتعادها عن فكر «الإخوان المسلمين». هكذا، وُلد خطاب متطرّف بُني على «مظلومية» مَن اتُّهموا في قضايا الإرهاب، وهم في النهاية مَن ضحّت بهم «النهضة» بعد أن حوصرت بتهمة الضلوع في تسفير التونسيين إلى بؤر التوتّر. وقد جاهر أصحاب هذا الخطاب، خلال حملاتهم الانتخابية، برفض كلّ حضور للدولة، وأعلنوا تطلّعهم إلى إقامة المشروع الإسلامي، ليتشكّل في نهاية المطاف تكوين سياسي هجين سُمّي «ائتلاف الكرامة» (26 مقعداً). هذا الائتلاف، لم يكن في الواقع إلّا جناحاً خلفياً لـ«النهضة»، استخدمته في ترهيب خصومها، إلى أن تَحوّل البرلمان إلى حلبة صراع ثيران. وقد كانت هذه اللعبة الأكثر خطورة من جميع المناورات التي اعتمدتها «النهضة». فبعد سنة ونصف سنة من عمل البرلمان، تعمّقت الأزمة الاقتصادية، وتواترت الاحتجاجات الاجتماعية التي تمّ قمعها بالقوّة، فيما جاءت أزمة «كورونا» لتزيد الطين بلّة، بعدما تولّت «النهضة» و«الائتلاف» تأمين الحماية لرئيس الحكومة السابق، هشام المشيشي، على رغم انعدام كفاءته في إدارة الأزمة، ما أثار نقمة شعبية تُرجمت بإحراق مقرّات «النهضة» في 24 و 25 تموز الماضي.
يعيد اليوم سعيد استحضار فكرة اللعب على انقسامات التونسيين


كلّ ذلك تلقّفه سعيد في اللحظة المناسبة، متّخذاً قراراته الشهيرة، فيما يعيد اليوم سعيد استحضار فكرة اللعب على انقسامات التونسيين. وبالنظر إلى ما رآه خصوم الرئيس من تناقض في شخصيته، ما بين التزامه بتعاليم الإسلام في حياته العملية، ومناصرته الحقوق والحرّيات في خطاباته، فقد توقّعوا أن يواجه مأزقاً في الإبقاء على الفصل الأول من دستوره الجديد، المعنيّ بتوضيح علاقة الدولة بالدين، والذي جاء في متنه في دستور 2014 أن تونس «دولة مستقلّة ذات سيادة، العربية لغتها والإسلام دينها»، مع الحفاظ على الشريعة كمصدر من مصادر التشريع في مقدّمة الدستور أو مبادئه العامة. لكنّ رئيس اللجنة المكلّفة بالإصلاحات الدستورية فاجأ الجميع بالإعلان عن التوجّه لإقرار العلمانية التامّة، مبرّراً ذلك بأنه «إذا كانت الصيغة القديمة لإقرار دين للدولة مدخلاً لبروز تيّارات سياسية تستخدم الدين وتوظّفه لغايات سياسية، فسيتمّ حظر ذلك في الدستور الجديد بشكل قاطع لا لبس فيه». والظاهر أن هذه الخطوة، التي تستهدف استقطاب معارضي الإسلام السياسي، ستعيد نفث الروح نسبياً في استفتاء سعيد الذي تعتزم النخب مقاطعته، وقد تدفع الفئة التي تطالب بالصيغة العلمانية منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، إلى التصويت لصالح التعديلات المقترَحة.