للمرّة الأولى في تاريخها، تجد دولة الاحتلال نفسها أمام إمكانية بُطلان سريان قوانينها على المستوطنات التابعة لها في الضفة الغربية، وذلك بسبب الانقسامات العاصفة بالائتلاف الحكومي، والتي أدّت أول من أمس إلى سقوط قانون «أنظمة طوارئ يهودا والسامرة» أمام الهيئة العامّة لـ«الكنيست». وعلى رغم كوْن هذه الأنظمة عاموداً رئيساً من أعمدة نظام «الأبارتهايد»؛ بالنظر إلى أنها تُخضع الفلسطينيين لحُكم عسكري، فيما تحيل المستوطنين إلى القانون المدني المُطبَّق داخل «دولة إسرائيل»، إلّا أن الشركاء العرب في الائتلاف الحُكومي لم يكونوا ليمتنعوا عن التصويت لصالحها، في ما لو نجحت محاولة مساومة حكومتهم على مكاسب محدودة يُغرون بها «الجمهور العربي» الذي لا يفتأ ينبذهم. وإذا كان لهذا الاختبار أن يثبّت شيئاً، فهو الموقع الهشّ لهؤلاء، وعجزهم عن استحصال ولو بعض الميزانيات لعدد من السلطات الفلسطينية المحلّية في الداخل
«إن أكثر ما أفتخر به كعضو في الائتلاف الحاكم هو العملية بحدّ ذاتها، أي نجاحنا في إقامة هذه الشراكة». ليس صاحب هذه المقولة زعيم حزب يساري في دولة طبيعية، نجح في تدوير الخلافات مع مُنافسيه اليمينيّين لينضمّ إلى حكومة برئاستهم مثلاً، بل هو ليس إلّا منصور عباس، زعيم حزبٍ إسلامي راديكالي، انضمّ إلى حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، ومنذ عام بالضبط، أصبح متعهّد إنقاذها من كلّ سقطة، فيما يقتات هو وشركاؤه الفُتاتَ الذي تمنّ به هي على «الجمهور العربي في إسرائيل». أوّل من أمس، انسحب عباس من جلسة التصويت على تمديد قانون «يهودا والسامرة»، والذي يعني تمديد سريان القوانين الإسرائيلية على المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، وذلك بعدما أخفق، إلى جانب جهات أخرى في الائتلاف في إقناع بقيّة أعضاء «الموحّدة» بالتصويت لصالح القانون، أو أقلّه التغيّب عن الجلسة، طبقاً لما ذكرته وسائل إعلام إسرائيلية. ولم ينبع رفض هؤلاء من معارضة مبدئيّة للأنظمة التي تكاد تمثّل الوجه الأكثر وضوحاً لنظام «الأبارتهايد»، بل من محاولة مساومة حكومتهم على مكاسب محدودة، كانوا سيصوّتون بتأييد القانون لو حصلوا عليها، في إطار «التزامهم بالقرارات والقوانين التي يطرحها الائتلاف الذين هم جزء منه»، تماماً كما صوّتوا لصالح عشرات القوانين الأخرى المجحفة بحقّ الفلسطينيين (وضمنهم مَن انتخبوهم). حتى النائبة غيداء -ريناوي زعبي، من حزب «ميرتس»، والتي كانت قد استقالت من الائتلاف لـ«صحوة ضميرها» تجاه الاعتداءات على المسجد الأقصى وجنازة الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، كما قالت، لم يكن عندها هي الأخرى مانع من دعم التمديد، شرط أن يعلن أعضاء «الموحّدة» تأييدهم له.
في النهاية، انسحب أعضاء «الموحّدة» من الجلسة، عندما صوّت زميلهم في القائمة نفسها، مازن غنايم، ضدّ القانون، تماماً كما فعلت ريناوي - زعبي، خلافاً لرغبة عباس. وهو تصويت كشف، إلى جانب مؤشّرات أخرى، عُمق الخلافات بين هؤلاء، وعرّى «الإنجازات» التي لطالما افتخر رئيس «الموحّدة» بأنه حقّقها لـ«الجمهور العربي». وفي هذا الإطار، قال غنايم لـ«الإذاعة العامة الإسرائيلية» (كان) إن «منصور عباس ووليد طه (شريكَيه في الموحدة) يتعمّدان إقصائي عن عملية اتّخاذ القرارات»، متّهماً إيّاهما بأنهما لا يوليان أهمية للأمور التي يَدفع بها لصالح «المجتمع العربي». ولفت إلى أن الحكومة لا تلبّي مطالبه، كما تماطل في معالجتها، مشيراً إلى أنه «تَقدّم بخطّة لتطوير المواصلات في المجتمع العربي (لدى فلسطينيي الـ48)، غير أن وزيرة المواصلات، ميراف ميخائيلي، قذفت موعد الاجتماع لمناقشة الطرح إلى ما بعد ثلاثة أشهر». ومع ذلك، اعترف غنايم بأن ثمّة حالة نبذ له في أوساط فلسطينيي 48، شأنه شأنه بقيّة أعضاء «الموحّدة» على خلفيّة مشاركتهم في الائتلاف، قائلاً إن «هناك ردود فعل غاضبة من الجمهور العربي تجاهه»، وهو ما يلمسه من خلال حضوره المناسبات والأفراح في مدينته سخنين أو في مدن وبلدات فلسطينية أخرى يلتقي خلالها بِمَن منحوه الثقة. كذلك، نقلت «كان» عن مقرّبين من غنايم قولهم إنه «يشعر بأنه استنفد طاقته، وهو يشعر بالخذلان لأنه توقّع أن يدعمه زملاؤه في القائمة بعد تصويته ضدّ الأبرتهايد لكنهم لم يفعلوا».
تفرض إسرائيل بموجب «أنظمة طوارئ يهودا والسامرة» قانونها على مستوطنات الضفة المحتلّة


وكما غنايم، أصبحت ريناوي - زعبي منبوذة هي الأخرى داخل الائتلاف لتصويتها ضدّ القانون، وهي كشفت أن المطالب التي تقدّمت بها كشرط لعودتها إلى المعسكر الحكومي إثر استقالتها (والتي تبدو أشبه بقائمة المشتريات، حيث تتضمّن بنوداً للحصول على بعض الميزانيات لعدد من السلطات الفلسطينية المحلّية في الداخل) رُفِضت، بعدما اعتبرها قادة الائتلاف «محاولة ابتزاز». أمّا منصور عباس، الذي بذل جهوده لتمرير القانون، فأكد لدى سقوط الأخير أنه لن يسمح بسقوط الحكومة التي فقدت الأغلبية، على رغم أن الائتلاف الحاكم يدرس معاقبة «الموحّدة»، على خلفيّة مواقف بعض أعضائها الذين «تجاوزوا حدودهم»، وفق ما نقلته وسائل إعلام إسرائيلية عن بينت، ووزيرة الداخلية إيليت شاكيد، وعضو «الكنيست» نير أورباخ. وفي الاتّجاه نفسه، طالب وزير القضاء، جدعون ساعر، بعدم التهاون مع أعضاء «الكنيست» العرب في الائتلاف، فيما يأمل منه الأخير التريّث وعدم اتّخاذ قرارات متطرّفة، وخاصة أن تقارير إعلامية إسرائيلية كشفت عن اتّصالات تدور بين ساعر وحزب «الليكود» لتشكيل حكومة بديلة من حكومة بينت، يرأسها بنيامين نتنياهو، من دون التَّوجّه إلى انتخابات جديدة، مقابل تنصيب ساعر وزيراً للخارجية.
على ضفّة المعارضة التي يرأسها نتنياهو، لم يكن التصويت ضدّ القانون إلّا في إطار المناكفات السياسية، والسعي لإظهار حكومة بينت ضعيفة وغير قادرة على تمرير القوانين. فعلى إثر فشل تمرير القانون بالقراءة الأولى، قال نتنياهو: «بينت، عُدْ إلى المنزل. حان الوقت لإعادة إسرائيل إلى اليمين». أمّا وزير الخارجية، يائير لابيد، وهو الشريك الثاني في الائتلاف الحاكم، فأقرّ بـ«هزيمة» الحكومة، لكنّه أكد أنها «ستعود أقوى للفوز في الجولة المقبلة»، وهو ما ليس مستبعداً في حال نجحت الحكومة في تذليل العقبات التي اعترضتها هذه المرّة.
ما هي «أنظمة الطوارئ»؟
تفرض إسرائيل، بموجب «أنظمة طوارئ يهودا والسامرة» (التي تُمدَّد مرّة كلّ خمس سنوات)، قانونها على المستوطنات والمستوطنين في الضفة الغربية المحتلّة، منذ احتلالها عام 1967. وطبقاً لما ذكرته وسائل إعلام اسرائيلية نقلاً عن رسالة بعثتها نائبة المستشار القضائي للحكومة، أفيطال سومبولينسكي، إلى وزير القضاء، نهاية الشهر الماضي، فإن عدم تمديد هذه الأنظمة لخمس سنوات أخرى «سيصعّب حياة المستوطنين، لا بل قد يجعلها غير مقبولة»، فيما سيجعل - أقلّه نظرياً - مهمّة التنكيل بالفلسطينيين أكثر صعوبة؛ إذ إن تبعات ذلك ستنعكس على أكثر من صعيد، في مقدّمتها أنه «لن تكون لإسرائيل صلاحية احتجاز فلسطينيّي الضفّة الذين أُدينوا بمخالفات أمنية، في محاكم عسكرية»، وبالتالي «عليها نقل ما لا يقلّ عن 3500 أسير فلسطيني إلى سجون (الاحتلال) في الضفة».
وبما أن أنظمة الطوارئ «تنظّم العلاقات بين المستوطنين في الضفة ومنظومة الحُكم الإسرائيلية، وتُعالج وضع المستوطنين الذين يسكنون عملياً خارج حدود إسرائيل، كما تخوّل السلطات الإسرائيلية وأجهزة إنفاذ القانون، مثل الشرطة، العمل خارج حدود الدولة، والسماح لمواطنين إسرائيليين وسلطات الدولة بالتنقّل بحرية بين الضفة وإسرائيل»، فإن انتهاء سريانها يعني أنه لا إمكانية لمحاكمة مستوطني الضفة، بسبب مخالفات ارتكبوها هناك، داخل إسرائيل، بل ضرورة محاكمتهم في محاكم عسكرية وبموجب القانون العسكري، وسجنهم في سجون الضفة فقط. وحتى نهاية الشهر الحالي (موعد نهاية صلاحية الأنظمة في حال لم تُجدَّد)، يحاكَم المستوطنون في إطار جهاز القضاء المدني داخل الكيان، بينما يحاكَم الفلسطينيون في محاكم عسكرية بموجب القانون العسكري.
إضافة إلى ذلك، فإن جزءاً من الحقوق والواجبات لن يسري على المستوطنين، سواءً في ما يتعلّق بالسجلّ السكّاني، أو قانون التأمين الوطني، أو قانون ضريبة الدخل، أو القوانين المتّصلة بالإرث والوصاية. كما أنه لا يمكن للمستوطنين التصويت في الانتخابات، علماً أن صحيفة «هآرتس» ذكرت نقلاً عن مصادر في وزارة القضاء أنه قد يجري حلّ هذه المعضلة عن طريق ابتداع توصيف لهؤلاء مِن مِثل: «إسرائيليون يسكنون خارج إسرائيل»، بحيث يُسمح لهم بالتصويت في صندوق اقتراع عسكري أو الدخول إلى المناطق المحتلة عام 1948 والتصويت.
وعلى رغم كلّ ما تَقدّم، هل سيُغيّر عدم سريان هذه الأنظمة من واقع الأمر في الأراضي المحتلّة شيئاً؟ الجواب، ببساطة، هو لا؛ ذلك أن سياسة الفصل العنصري مترسّخة بوسائل عديدة، وما إجراءات الطوارئ التي أقرّتها إسرائيل إلّا غطاء قانوني لتطبيق نظام «الأبرتهايد» بهدوء، ومن دون أيّ مساءلة من «العالم الحرّ».