رسّخت المناوشات العنيفة التي شهدتها مدينة طرابلس في أيار الفائت، بين أنصار حكومة عبد الحميد الدبيبة ومنافِسه فتحي باشاغا (رئيس الحكومة التي دعمها مجلس النواب في بنغازي)، المعادلة الصفرية في التسوية السياسية المفترضة للأزمة الليبية، والتي أصبح رهْنها بشكل كامل، وحتى الأمتار الأخيرة، بتسويات الأطراف الإقليمية والدولية ومحاصصاتها، حتمياً ومقبولاً علناً، قبل إطلاق عملية سياسية حقيقية سبق أن توفّرت لها - نظرياً - خرائط طرق واضحة لم تلتزم بها أطراف الأزمة داخل ليبيا، كما داعموها في الخارج. وبعد استنفاد «مسار برلين» و«مؤتمر باريس» التنشيطي له (منتصف تشرين الثاني 2021) قوّتهما، إثر الفشل في عقْد الانتخابات البرلمانية والرئاسية نهاية 2021 (كحدّ أقصى)، بادرت روما، مطلع حزيران الجاري، إلى الإعلان عن ترتيبات لعقْد «مائدة تقنية»، يُحتمَل، في ظلّ وضعها مسألة توفيق الموقفَين المصري والتركي بخصوص ليبيا ضمن أجندتها، أن تنجح في تهدئة الأوضاع في ليبيا، على الأقلّ على المدى القريب، على رغم استبعاد روسيا من حضور المؤتمر حتى الآن.
النزاع على «الشرعية»
كشفت الفوضى الليبية في الأسابيع الأخيرة هشاشة حالة السلام التي استمرّت نحو عام، مع تصاعد المواجهة بين حكومتَي باشاغا والدبيبة المتنافستَين، وانتقاله إلى طرابلس (17 أيار الفائت)، إثر دخول الأوّل العاصمة ومحاولته إقامة حكومته فيها بدعم من ميليشيا «النواصي» بقيادة مصطفى قدور، نائب رئيس جهاز الاستخبارات، واضطراره بعد نحو 24 ساعة فقط إلى الانتقال إلى مدينة سرت، ثمّ إقالة الدبيبة لقدور وأسامة جويلي رئيس الاستخبارات العسكرية، وهو القرار الذي عارضه المجلس الرئاسي، في ما بدا طعنة من داخل معسكر الدبيبة. وكانت القاهرة قد شهدت، منتصف أيار الماضي، جلسات «ملتقى الحوار السياسي» الذي ترعاه الأمم المتحدة، في محاولة للاتفاق على التعديلات الدستورية بخصوص الانتخابات التي تمّ تأجيلها أكثر من مرّة، من دون الخروج بتوافق، ما أدى إلى تعقيد الوضع، لا سيما أن باشاغا وحليفه عقيلة صالح كانا قد أعلنا في مطلع أيار (قبل الملتقى بأقلّ من أسبوعين) عن إمكانية إعادة فتح مرافق البترول بشرط تجميد عائداتها مؤقّتاً، حتى يتمّ التوافق على «آلية إدارة هذه العائدات»، وهو ما اعتبرته الفصائل المناوئة مشروطيّة غير مقبولة.
ويرى مراقبون دوليون أنه على رغم اعتراف مصر وفرنسا والولايات المتحدة بحكومة الدبيبة رسمياً، فإن هذا «المحور» يدعم تكتيكياً باشاغا لأهمّية تحالفه مع حفتر، وما سيمثّله ذلك من قوّة استقرار كبيرة (سياسياً وعسكرياً) في ليبيا. كما أن الدول الثلاث تدعم خريطة طريق مجلس النواب لتجاوز الأزمة الحالية، والداعية إلى تعديل مشروع الدستور قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية، فيما تتخوّف القاهرة من الاكتفاء بالانتخابات البرلمانية التي تتوقّع أن تفوز فيها فصائل الإسلام السياسي. وبينما برّر باشاغا، المعروف بصلاته الوطيدة مع تركيا (التي زارها قبيل منتصف أيار الماضي، والتقى فيها مدير المخابرات التركية)، والجزائر (التي ترفض بشكل واضح الاعتراف بحكومته راهناً)، تَقاربه مع غريمه سابقاً، أي حفتر، بأهمّية الخطوة لـ«إنقاذ ليبيا بعد سرقة ثورتها»، كشف تقرير أممي (نهاية أيار) عن أدلّة على ضلوع حفتر في انتهاكات خطيرة ضدّ الاستقرار الأمني في البلاد.
يظلّ الاتحاد الأوروبي حاضراً، تأثّراً وتأثيراً، في الأزمة الليبية التي زادت من تعقيد مصالحه في الطاقة والأمن


وإجمالاً، لم يقدّم طرفا الصراع أيّ حلول وسط يمكن أن تُجنّب البلاد تبعاته؛ فبينما يَعِد باشاغا بدعم خريطة الطريق التي أقرّها برلمان بنغازي، ويحاول استثمار صلاته الاستخباراتية التركية المعروفة في إقناع أنقرة بقبوله حلّاً وسطاً، فإن الدبيبة تجاهل التفاوض بشأن تعديل الخريطة المذكورة، وأكد تمسّكه بـ«شرعية» بقائه في السلطة حتى إجراء الانتخابات التشريعية التي قال إنها ستجري في المناطق الخاضعة لسيطرة حكومته «في غضون الشهور المقبلة»، حتى في ظلّ غياب «دستور متوافَق عليه»، ما يفرّغ عملية الانتخابات الجزئية من مضمونها تماماً. كما بدأت فصائل أخرى بالدعوة إلى تكوين حكومة مؤقّتة جديدة بقيادة شخص آخر غير باشاغا والدبيبة، «كخطوة أولى» للخروج من الأزمة، وهو طرحٌ يتجاهل طبيعة الاستقطابات السياسية الراهنة وصلابة المواقف الخارجية الداعمة لها، كما يتجاهل تقديم تصوّر للخطوات التالية.

المسار الإيطالي
يظلّ الاتحاد الأوروبي حاضراً، تأثّراً وتأثيراً، في الأزمة الليبية التي زادت من تعقيد مصالحه في الطاقة والأمن، ومحاولات تنويع وارداته من منتجات الطاقة، وتقليل الاعتماد على مصادرها الروسية. كما أن الصراع على قطاع البترول والغاز بين الفرقاء الليبيين يحجّم استقرار العرض على المدى القصير، ويهدّد تَوفّر موارد إضافية على المدى البعيد. وعلى هذه الخلفية، أعلنت روما، مطلع حزيران الجاري، في ما يُذكّر بمؤتمرات أوروبية سابقة آخرها «مؤتمر باريس»، إعدادها لاجتماع دولي يضمّ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وتركيا ومصر، على أن يُعقد قبل 22 حزيران، أي قبل أيام من نهاية المهلة المحدَّدة لخريطة طريق الحوار السياسي (وفق مسار جنيف). وتحدّثت مصادر إيطالية عن حرص روما على جمع مصر وتركيا في الاجتماع، لضمان إسهامهما في خفض التوتّر في ليبيا. ويُتوقَّع أن يقوم الاتحاد الأوروبي، عبر هذا المسار، بالضغط على الأطراف الليبية للتوصُّل إلى اتفاق حول موازنة موحّدة للدولة (بعد فشل حكومة باشاغا في تمرير الموازنة التي وضعتها ووافق عليها مجلس النواب). وقد عزّز السفير الألماني في طرابلس، ميخائيل أونماخت، المقاربة الإيطالية بتأكيده - بعد الإعلان عنها مباشرة - أن الحلّ الأفضل لإنهاء الأزمة السياسية، «هو الحوار والاتفاق السياسي الذي يؤدّي إلى الانتخابات ويعزّز الاستقرار». كما وافق جميع أعضاء مجلس الأمن الدولي (باستثناء روسيا التي امتنعت عن التصويت)، في 3 حزيران الجاري، على قرار قدّمته فرنسا بتمديد عمليات البحث عن أسلحة في أعالي البحار قبالة السواحل الليبية لمدّة عام آخر، ما يؤشّر إلى استمرار الضغط الأممي على الأطراف الليبية التي تنتهك حظر واردات السلاح.

تركيا ومصر: مفتاح حلّ الأزمة؟
ثمّة ملاحظتان أساسيتان على خطّة عمل روما: استبعادها - حتى الآن - روسيا من الاجتماع المزمع عقده «في مدينة عربية محايدة»، على رغم حضور روسيا في تفاعلات الأزمة منذ سنوات، مقابل حرصها على حضور تركيا ومصر، والذي يؤشّر إلى الرغبة في الاستفادة من جهود البلدَين في خفض التوتّر داخل ليبيا، خصوصاً في ظلّ تقارب القاهرة وأنقرة اقتصادياً، والذي من شأنه تعزيز فرضيّة جنوحهما إلى مبدأ «الفوز للجميع». وتمثّل السوق الليبية فرصة حقيقية أمام الصادرات المصرية والتركية؛ فليبيا أحد أكبر الأسواق المستقبِلة للصادرات المصرية (حلّت التاسعة عالمياً في عام 2021، باستقبالها سلعاً بقيمة 938 مليون دولار، مقارنة بما قيمته 570 مليون دولار فقط في عام 2020، أي بزيادة تجاوزت 64%)، بينما تجاوزت الصادرات التركية إلى السوق الليبية في عام 2020 (بحسب تقديرات OEC World) 1.65 بليون دولار، قبل أن ترتفع - وفق تقديرات «مجلس الأعمال الليبي التركي» - إلى 2.44 بليون دولار في العام التالي، مُحقِّقةً زيادة قدرها 65%، وسط توقّعات بوصول حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 10 بليون دولار حال الاستقرار السياسي في ليبيا، وتصاعُد دور المنظّمات غير الحكومية في قطاع الأعمال. وهكذا، فإن ثمّة مؤشرات إلى وجود فرص مستقبلية «لمحاصصة مصرية تركية» في السوق الليبية، حيث تستأثر مصر بخبرة كبيرة وميزة نسبية هائلة في مجالات الخدمات والبنية الأساسية، بينما تغلب التجارة السلعية على العلاقات التركية - الليبية.

خلاصة
لا يُتوقَّع، تقليدياً، أن تخرج ليبيا من أزمتها السياسية المزمنة من دون مزيد من الانخراط الدولي، مع ضرورة تَوفّر إجماع ليبي أكبر. وما يدلّل على ذلك أنه على رغم الاعتراف الدولي الغالب بشرعية حكومة الدبيبة، باستثناء روسيا التي اعترفت رسمياً بحكومة باشاغا، وما تتمتّع به الأخيرة من قبول واقعي بين أغلب الأطراف الخارجية النافذة، فإن هذه الأطراف لا تزال مختلفة حول الخطوات التي يجب إكمالها للانتقال من الإدارة المؤقّتة إلى حكومة منتَخبة، كما أنها لا تزال ثابتة على مقاربتها للأزمة الليبية من زاوية رهْن حلّها من عدمه، بتسوية مناسبة لمصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية.