بعد اتّصال هاتفي بين الرئيسَين، التركي رجب طيب إردوغان، والروسي فلاديمير بوتين، ناقش خلاله الطرفان ملفّات عديدة تتعلّق بالحرب في أوكرانيا، وأزمة الغذاء التي يواجهها العالم، بالإضافة إلى الأوضاع في الشمال السوري، أعلن إردوغان، في كلمة أمام نواب حزب «العدالة والتنمية» في البرلمان أوّل من أمس، أن الهدف من المرحلة المقبلة من العمليات العسكرية التركية في سوريا هو منبج وتل رفعت في ريف حلب، قبل أن يشنّ هجوماً لاذعاً على شركاء له في «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، من دون أن يُسمّيهم، معتبراً أن «الجهات التي تقدّم السلاح للإرهابيين مجاناً وتمتنع عن بيعه لتركيا تستحقّ لقب دولة إرهاب لا دولة قانون»، في إشارة إلى العقوبات التي فُرضت على تركيا على خلفيّة احتلالها عفرين خلال عمليات «غصن الزيتون» قبل نحو أربعة أعوام.التصريحات التركية الجديدة التي خفّضت من سقف التوقّعات بشكل كبير، جاءت بعد جولة مفاوضات دبلوماسية بين تركيا والولايات المتحدة ودول في الاتحاد الأوروبي، في إطار الجهود الغربية المتواصلة لمضاعفة الضغط على روسيا عبر ضمّ السويد وفنلندا إلى «الناتو». وإذ قدّمت واشنطن لأنقرة، خلال تلك المفاوضات، تسهيلات كبيرة من بينها العمل على إحياء صفقة طائرات «F16» كانت قد علّقتها الأولى، فقد اتّخذت موقفاً حازماً تجاه أيّ عملية عسكرية تركية جديدة، باعتبارها ستؤدّي إلى «زعزعة أمن المنطقة». وأمام مجريات الأحداث، يبدو اختيار الرئيس التركي منطقتَي منبج وتل رفعت تحديداً، التفافاً على فشل أنقرة في الحصول على تسهيلات أميركية، علماً أن المنطقتَين تُعدّان موضع جدل منذ سيطرة «قسد» عليهما عام 2016 بغطاء جوّي روسي، وما تبع ذلك من اتّفاقات روسية - تركية تعهّدت خلالها أنقرة باتّخاذ خطوات فعلية في إدلب شمال غربي سوريا، عن طريق عزل «الإرهابيين» والعمل على فتح طريق حلب – اللاذقية، في حين تعهّدت موسكو بمراقبة نشاط الأكراد وضمان عدم اتّخاذهم منبج وتل رفعت منطلقاً لشنّ أيّ هجمات.
وخلال العامَين الماضيَين، وبالتوازي مع انسحابات واشنطن من مواضع في سوريا وتمركزها في المناطق النفطية حينها، حاول الرئيس التركي الضغط مجدّداً للسيطرة على منبج وتل رفعت، الأمر الذي يضمن له انتزاع جيب كردي موجود في خاصرة مساحة سيطرة القوات التركية، بالإضافة إلى توجيه ضربة اقتصادية كبيرة لـ«قسد» التي تعتمد على منبج في تنفيذ تعاملات تجارية كبيرة تتعلّق بعمليات تهريب النفط من وإلى الشمال والشمال الغربي من سوريا، بالإضافة إلى تهريب البضائع التركية. من جهتها، كثّفت روسيا نشاطها العسكري في مناطق التماس مع القوات التركية، في حين استقدم الجيش السوري تعزيزات إلى أماكن عدّة، من بينها نقاط تمركزه على تخوم منبج، وفي محيط تل رفعت، كما عمدت موسكو إلى تسيير دوريات جوّية بشكل يومي تنفّذها حوّامات عسكرية على ارتفاع منخفض، الأمر الذي يُعتبر رسالة مباشرة إلى أنقرة من جهة، وإلى الفصائل التابعة لها، والتي قد تقْدم على محاولة إحداث تغييرات في الخريطة الميدانية.
اختيار إردوغان منطقتَي منبج وتل رفعت تحديداً هو التفاف على فشل أنقرة في الحصول على تسهيلات أميركية


وعلى الرغم من التشدّد الروسي في الميدان، بدا موقف موسكو السياسي أكثر ليناً من نظيره الأميركي إزاء الرغبة التركية في قضم مناطق في سوريا، الأمر الذي يبدو أنه يرتبط بالاتّفاقات المُوقّعة بين الطرفين، والتي عبّرت روسيا أكثر من مرّة عن قلقها من تأخّر تركيا في تنفيذ تعهّداتها بموجبها في إدلب. ويعيد ذلك مجمل التفاهمات الروسية - التركية إلى الواجهة مرّة أخرى، ويضع «قسد» أمام اختبار صعب في منطقتَي تل رفعت ومنبج، حيث ستجد نفسها مجدّداً إزاء مطلب تسليم المنطقتَين للجيش السوري بما من شأنه قطع الطريق على تركيا إليهما، وتمكين روسيا من تنفيذ تعهّداتها بخصوصهما، غير أن هذه الخطوة لا تزال مرتبطة بشكل وثيق بملفّ إدلب، الذي سيؤدي أيّ تقدّم ملموس فيه إلى تقدّم مماثل في منبج وتل رفعت. وأمام هذه المعادلة، وفي ظلّ انعدام الوجود الأميركي في المنطقتَين الأخيرتَين، ومع ازدياد الضغوط التركية، يبدو الأكراد الذين يَنشدون الدعم الأميركي، وتشهد علاقتهم بروسيا فتوراً ناجماً عن الارتماء في أحضان واشنطن، في موقف صعب؛ فمن جهة، أثبتت التجارب التي خاضوها سابقاً عدم قدرتهم على مقاومة تركيا، خصوصاً أن حليفهم (واشنطن) تخلّى عنهم مرات عديدة، ومن جهة أخرى، ما زال التيّار المتشدّد في «قسد» يقاوم الضغوط السياسية لتسليم منبج وتل رفعت، أملاً بانفراجة ما تضمن استمرار سيطرتها عليهما.
على أن التحرّكات العسكرية الكردية، والتصريحات التي يطلقها مسؤولو «قسد»، تشير إلى وجود قلق من «خدعة تركية» يتمّ خلالها التركيز الإعلامي على منطقتَين في ريف حلب، بينما يكون الهدف الحقيقي قضم مناطق أخرى، من بينها عين عيسى التي تُعتبر عاصمة «الإدارة الذاتية»، وتُعدّ عقدة مهمّة على طريق «M4» الدولي؛ وعين العرب (كوباني) التي تمثّل نقطة فصل بين مناطق سيطرة تركيا على الشريط الحدودي، وتسعى أنقرة إلى انتزاعها لوصل الشمال السوري بتل أبيض، خاصة بعد انسحاب قوات «التحالف الدولي» من قاعدة «خراب عشق» في معمل «لافارج» الفرنسي للإسمنت، وانسحاب الخبراء الفرنسيين الذين باشروا قبل نحو ثلاثة أسابيع العمل على إعادة تشغيل المصنع؛ إضافة إلى تل تمر ومحيطها، والتي شهدت خلال اليومين الماضيين تكثيفاً للاستهداف المدفعي والصاروخي التركي، الأمر الذي نجمت عنه حركات نزوح وسط مخاوف من شنّ هجوم برّي تركي.
بشكل عام، لا توحي التحرّكات العسكرية التركية، على رغم تصاعد وتيرة القصف، بأيّ تحشيد عسكري جدّي استعداداً لعملية عسكرية كبيرة، خصوصاً بعد حصْر النشاط التركي في منطقتَين صغيرتَين لا تتطلّب السيطرة عليهما استعدادات كبيرة في حال سمحت موسكو بذلك. على أن الديناميات الروسية المتزايدة على الأرض تشير، حتى الآن، إلى تمسّك موسكو باتّفاقها المبرم مع أنقرة، واستعدادها للإيفاء بتعهّداتها، في انتظار التزام تركي مماثل في إدلب.