القاهرة | تتسارع في مصر عملية استصدار أحكام جديدة، أو إبرام تسويات لصالح بعض المعتقلين السياسيين على خلفيّة انتقادهم الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظامه وسياساته، فيما آخرون لن تشملهم «بركة» العفو الرئاسي، مهما بلغت الضغوط لإخراجهم، كونهم «لم يتعلّموا الدرس»، كما ترى السلطة. قبل أيام قليلة، كتب رئيس قسم الإذاعة والتلفزيون في كلية الإعلام في جامعة القاهرة، الدكتور أيمن منصور ندا، والذي سُجن لأسابيع عدّة على خلفية انتقاده المنظومة الإعلامية وطريقة تحكُّم مدير المخابرات اللواء عباس كامل بها، تدوينة طويلة دافع فيها عن التسوية التي انخرط فيها. وتحدّث ندا صراحةً عمّا مرّ به من معاناة، بدايةً من إغلاق أبواب الرزق أمامه وعدم قدرته على الإنفاق على عائلته واضطراره للاقتراض ووقوعه في المديونية بعدما كان ميسوراً، فضلاً عمّا أُنفق عليه خلال فترة سجنه، معتبراً أنه لا تمكن محاسبته على قبوله الجلوس مع مَن اتّهمهم بالفساد والتصالح معهم.حالة ندا، الذي سُجن على خلفيّة كشْفه العديد من الحقائق، تكاد تكون النقيض لحالة علاء عبد الفتاح - على سبيل المثال -، الذي لا يزال يرفض أيّ مساومات مع السلطة، وهو ما يُعرّضه لأبشع أنواع التنكيل داخل السجن، حتى مع إضرابه عن الطعام. وعلى العكس من غالبية المعتقلين السياسيين، يقف عبد الفتاح وحيداً، حيث لم يَعُد يجد مَن يدافع عنه أو يطرح اسمه في قوائم العفو المطلوب من الرئيس التصديق عليها، باستثناء عائلته التي تُواصل حملاتها في الخارج من أجل الضغط على النظام للإفراج عنه، بينما تتضارب المعلومات حول صحّته. ففي الوقت الذي تقول فيه أسرته إن وضعه بات خطراً بعد دخول إضرابه عن الطعام شهره الثاني، تقول وزارة الداخلية إن عبد الفتاح غير مضرب. أمّا «المجلس القومي لحقوق الإنسان» فتتباين تصريحاته هو الآخر، ما بين مطالبة بنقل علاء إلى سجن وادي النطرون باعتباره مجهّزاً طبّياً بشكل أفضل ويناسب حالته، وما بين الحديث عن وضعه الآمن في محبسه.
يوغل السيسي وأجهزته في التحكُّم بالقضاء على نحو يهدّد مستقبل الدولة


في خلفيّة ذلك، ومع دخول البلاد مرحلة جمود اقتصادي وموجات تضخّم وارتفاع غير مسبوق في الأسعار منذ عقود، يرغب السيسي ونظامه في تخفيف حالة الاحتقان السياسي، وهذه المرّة عبر الإفراج عن سجناء الرأي الذين يُبدون استجابة للتعليمات، ورفع الحصار السياسي المفروض على كثيرين، وفي مقدّمتهم المرشّح الرئاسي الأسبق، حمدين صباحي، الذي أطلّ في حوار تلفزيوني امتنع فيه عن انتقاد الرئيس، على رغم تَواصل حملات تشويه سمعته من قِبَل مواقع محسوبة على النظام. هكذا، يوظّف السيسي القضاء بما يخدم أهدافه، مستغلّاً صلاحياته القانونية والدستورية في إلغاء أحكام الطوارئ أو عدم التصديق عليها، ليجد المحامون، الذين لطالما اشتكوا من تجديد قرارات الحبس الاحتياطي، أنفسهم أمام زحمة قرارات بإخلاء السبيل لموكّليهم، في انتظار عفو رئاسي للأسماء نفسها في القضايا المحكوم عليهم فيها بأحكام نهائية، سواءً كانت بموجب قانون الطوارئ أو أمام القضاء العادي. ولعلّ أبرز الأمثلة على ما تَقدّم، صدور قرار بالعفو الرئاسي عن المهندس يحيي حسين عبد الهادي، الذي اعتُقل قبل أكثر من 3 سنوات، وصدر بحقّه حُكم قضائي بالحبس لمدّة 4 سنوات، على خلفية اتّهامه بنشر أخبار كاذبة. وصدر قرار العفو عن عبد الهادي، الذي عُرف بمواجهته الفساد إبّان حُكم حسني مبارك وعارض السيسي بعد وصوله إلى السلطة، بالتزامن مع قرار من نيابة أمن الدولة بإخلاء سبيله في التحقيقات الجارية معه، بما يمهّد لخروجه من السجن.
على أن المُفرَج عنهم، وإن كانوا قد حصلوا على حرّيتهم، فإنهم لا يزالون أسرى ضرورة الالتزام بقواعد الإفراج المشروط. إذ إن غالبية النشطاء السياسيين الذين ستَصدر أسماؤهم في العفو المرتقب خلال ساعات، أو حتى في الدفعات اللاحقة، لن يكونوا قادرين على مباشرة حقوقهم السياسية مرّة أخرى قريباً، بسبب الأحكام القضائية والقضايا التي يواجهون شبح إعادتها إلى الواجهة مرّة أخرى. وكانت لجنة العفو الرئاسي، التي أعاد السيسي تشكيلها الشهر الماضي، تقدّمت بأكثر من ألف اسم لطلب العفو عنهم في قضايا سياسية. واللافت أن اللجنة تُناقض بذلك تصريحات الرئيس حول عدم وجود معتقلين سياسيين، في الوقت نفسه الذي يُصدر فيه القضاء أحكاماً قاسية على معارضين آخرين، كان أحدثها الحُكم القضائي بالسجن المؤبّد على المرشّح الرئاسي السابق، عبد المنعم أبو الفتوح، وسجن نجله 15 عاماً، بالإضافة إلى أحكام قاسية بحقّ عدد من شباب حزبه «مصر القوية»، بتهمة نشر أخبار كاذبة، وتمويل جماعة «الإخوان المسلمين»، وحيازة أسلحة ومفرقعات، وتوفير ملاذ لهاربين ومكان لتدريبهم، وهي اتّهامات تناقض مواقف أبو الفتوح المناهضة لـ«الإخوان» منذ 2009. إلّا أن وسْم أيّ شخص باعتباره «إخوانياً» أو منتمياً إلى الجماعة، بات المهمّة الأسهل لدى النظام، في مواجهة مَن يريد إقصاءهم.