على رغم التحشيد الكبير الذي ضجّت به وسائل الإعلام التركية، وبعض وسائل الإعلام العربية، حول اتّخاذ أنقرة قراراً نهائياً بشنّ عملية عسكرية لقضم مناطق جديدة في الشمال السوري، ضمن مخطّط «المنطقة الآمنة» التي يسوّق لها الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، كحلّ يضمن له استثمار ملفّ اللاجئين السوريين في الانتخابات الرئاسية من جهة، وإبعاد الأكراد عن حدوده ووضع يده بشكل مباشر أو غير مباشر على مناطق سورية إضافية، لا تشير التحرّكات العسكرية - التركية على وجه الخصوص - على الأرض، إلى وجود تحضيرات حقيقية لبدء أيّ عمل من هذا النوع. ولا يُعتبر التهديد بشنّ عملية عسكرية في سوريا أمراً جديداً على إردوغان، الذي توعّد بهجمات مماثلة مرّات عديدة خلال العامَين الماضيَين، تمّ في بعضها تحديد خطوط سير العمليات والمناطق المُراد السيطرة عليها، قبل أن يغلَق المخطّط بشكل تدريجي، ويوضع على الرفّ لاستعماله في مناسبات أخرى، كان آخرها محاولة استثمار الظروف الدولية التي خلقتها الحرب الروسية في أوكرانيا، ورغبة واشنطن في إعادة أنقرة إلى حضنها وإبعادها عن موسكو، بالإضافة إلى محاولة الضغط على روسيا عبر ضمّ السويد وفنلندا إلى «حلف شمال الأطلسي» (الناتو).وعلى الرغم من ابتعاد تركيا، هذه المرّة، عن تحديد أيّ خطوط واضحة لعمليتها العسكرية التي تقول إنها تسعى لتنفيذها، واستعمال إردوغان ومجلس الأمن القومي التركي كلمات فضفاضة لا تضرب أيّ موعد لها، كثّفت وسائل الإعلام التركية نشاطها الترويجي للهجوم التركي الذي اعتبرته مرتقباً، وهو ما تُظهر مجريات الأحداث على الأرض وقائع مخالفة له تماماً، إذ أكدت مصادر سورية معارضة، لـ«الأخبار»، أن الفصائل السورية التابعة لأنقرة لم تتلقَّ أيّ توضيح حول دورها المرتقب في الهجوم المفترض، كما لم يتمّ اتّخاذ أيّ ترتيبات عسكرية مماثلة لتلك التي كانت قامت بها تركيا خلال حملاتها العسكرية الثلاث السابقة في سوريا (غصن الزيتون، ونبع السلام، ودرع الفرات)، عبر تقسيم المهام وإعادة تنظيم وانتشار المقاتلين، إضافة إلى استقدام تعزيزات عسكرية ومعدّات ثقيلة. ويعني ذلك، وفق المصادر، أن أنقرة لم تتمكّن حتى الآن من الحصول على ضوء أخضر أميركي وروسي لشنّ عمليتها، ما يبقي الحديث في نطاق التصريحات السياسية لا أكثر.
كانت أنقرة منذ البداية تدرك استحالة تنفيذ العملية وجاءت تصريحاتها في نطاق الضغط السياسي


الملاحَظ أن تركيا، وعلى خلاف عادتها في استثمار ملفّ الشمال السوري للضغط على واشنطن أو موسكو، حيث تقوم بنشر جنود وإرسال مقاتلين إلى نقاط التماس بالتزامن مع رفع حدّة تصريحاتها، لم تعمد هذه المرّة إلى أيّ من تلك الإجراءات، بل اكتفت برفع وتيرة القصف الجوّي والمدفعي على بعض مناطق «قسد»، ما يعني أنها كانت منذ البداية تدرك استحالة تنفيذ عمليتها، وأن التصريحات السياسية جاءت في نطاق الضغط السياسي لتحصيل مكاسب، بالإضافة إلى استعمال التهديدات للاستهلاك الإعلامي في الداخل التركي، في نطاق الصراع الانتخابي المشتعل، والذي يشكّل ملفّ اللاجئين السوريين أحد أبرز جوانبه. وكان إردوغان، في آخر تصريح له أمام اعتصام للأمهات في ديار بكر، ترك - كعادته - الباب موارباً أمام احتمالات عدّة، بهدف إبقاء الضغوط التي يمارسها على الولايات المتحدة وحلفائه في «الناتو» بحثاً عن أكبر مكاسب ممكنة، حيث قال: «سنستكمل الحزام الأمني ​​البالغ عمقه 30 كيلومتراً، والذي نعمل على إقامته خطوة بخطوة على طول حدودنا مع سوريا، في أسرع وقت ممكن». وفي وقت تمّ فيه تفسير حديث الرئيس التركي على أنه تبرير لفشله في تحقيق وعوده بشنّ العملية، حاول الأخير تمرير رسائل للضغط على الولايات المتحدة التي تدعم الأكراد في «قسد»، إذ اعتبر أنه «يتعيّن على الجميع القيام بما يترتّب عليه بخصوص هذه المواضيع... وإذا كانت الولايات المتحدة لا تقوم بما يترتّب عليها في مكافحة الإرهاب، فماذا سنفعل؟ سنتدبّر أمرنا، فلا يمكن محاربة الإرهاب عبر أخذ إذن من أحد».
في السياق ذاته، يلاحَظ استثمار موسكو زيادة التوتّر أخيراً على خلفية التهديدات التركية، لتكثيف حضورها في الشمال السوري، حيث أرسلت تعزيزات عسكرية تابعة لها إلى مناطق انتشارها في ريفَي حلب والرقة، في حين تقوم الطائرات الروسية بتحليق دوري ومكثّف على طول خطوط التماس. وخلال الأيام الأربعة الماضية، أطلقت الطائرات الروسية قذائف متفجّرة في سماء مناطق خاضعة لسيطرة الفصائل التابعة لتركيا، الأمر الذي يحمل رسائل عدّة مُوجّهة إلى الأخيرة وإلى الفصائل السورية الموالية لها، حيث اعتبر مصدر سوري معارض، خلال حديثه إلى «الأخبار»، أن الهدف من هذه القذائف لجم أيّ تحرّك لفصائل غير منضبطة قد تحاول استثمار التوتّر السياسي لشنّ هجمات على مواقع الجيش السوري، أو المساس بخريطة السيطرة الحالية.
ووفق المسار الذي تشير إليه التطورات السياسية والميدانية، بات خيار تراجع تركيا بشكل تدريجي عن حديثها حول شنّ عمل عسكري في سوريا أكثر ترجيحاً، في ظلّ استحالة المُضيّ قُدُماً في عمليات التحشيد الكلامي غير المتّسقة مع ما يجري على الأرض. وممّا يعزّز ذلك الاحتمال رفض الولايات المتحدة العلني أيّ هجوم جديد، وعملها على إعادة نشر قوّاتها في نقاط انسحبت منها سابقاً، وتكثيف روسيا حضورها العسكري، وإعلان إيران (إحدى الدول الضامنة لمسار أستانا) رفضها هي الأخرى لأيّ عمل عسكري. وفي المقابل، يبدو أن أنقرة استطاعت تحصيل بعض المكاسب بفعل لعبة الابتزاز التي لا تزال تمارسها، ومن بينها صفقة طائرات «F16» تعمل واشنطن على تمريرها لصالحها، بالإضافة إلى رفع السويد العقوبات التي فرضتها على تركيا على خلفية احتلال الأخيرة عفرين، فضلاً عن مكاسب أخرى لم تُعلَن في الوقت الحالي.