ثمّة فجوة معرفية في القراءات العربية التي تناولت الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين من دون التحليل الدقيق للسياق الاقتصادي والاجتماعي ما قبل النكبة (1948)، فيما دأبت القراءات الإسرائيلية لدراسة الوضع التأسيسي للكيان المُحتل على نظرة اقتصادية واجتماعية مفصولة عن سياق استعماري. وهناك كتابات قليلة استطاعت أن تشرح طبيعة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، لكن ليس بمعزل كامل عن المجتمع الفلسطيني، وخصوصاً اللحظات الأولى للمواجهة بين المستوطنين الصهيونيين والفلسطينيين السكان الأصليين. توقفت هذه الكتابات أمام العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي اصطدم بها مشروع الاستعمار الصهيوني منذ بدايته، وتركت أثراً على شكل مؤسساته وأسلوبه الاستيطاني. لا يُمكن الإشارة إلى تلك الأعمال بالكمال، لكنها كانت نقاطاً فارقة في دراسة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين العربية، وهنا يكمن أهمية إلقاء الضوء عليها.عام 1989، ظهرت دراسة بعنوان: «الأرض والعمل وأصول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني (1882-1914)» لعالم الاجتماع غيرشون شافير، الذي قدّم رؤيته حول أصل الصراع «بين الشعبين: العربي – اليهودي» على الأرض وأسواق العمل في فلسطين خلال السنوات الأخيرة من الحكم العثماني، وهي الفترة المتزامنة مع الموجتين الأولى والثانية للهجرة الصهيونية الحديثة. يعزّز شافير هذا التحليل من خلال تحديد لحظات تاريخية بارزة (تحقيب) مثل: اندماج أراضي الإمبراطورية العثمانية في السوق الرأسمالية العالمية، وحركة الاستعمار الأوروبي في الخارج، وصعود القومية في أوروبا الشرقية، وتلك اللحظات تشكّل سياق مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين.
استناداً إلى تصنيف التوسع الأوروبي الإمبريالي في الخارج، الذي وضعه ديفيد فيلدهاوس في كتابه «الإمبراطوريات الاستعمارية من القرن الثامن عشر»، وجورج فريدريكسون في كتابه «التفوّق الأبيض: دراسة مقارنة لتاريخ أميركا وجنوب أفريقيا»، ثمّة ثلاثة أشكال من الاستعمار القائمة على استيطان جماعي أوروبي كالآتي:
1- إنشاء مستعمرات مختلطة تعتمد على عمالة السكان الأصليين مثل الاستعمار الاستيطاني الإسباني في المكسيك.
2- إنشاء مستعمرات مزارع وجلب عمالة رخيصة (عبيد على سبيل المثال) من الخارج مثل: استعمار الأوروبيين لجنوب أميركا الشمالية.
3- إنشاء مستعمرات استيطان محض، حيث تكون قوة العمل مقتصرة فقط على المستعمِرين، مثل: استعمار الأوروبيين لشمال أميركا الشمالية.
يؤكد شافير أن إسرائيل ليست «مختلفة تماماً» عن بعض المجتمعات الأوروبية الأخرى في الخارج والتي تم تشكيلها أيضاً في عملية التسوية والصراع مع المجتمعات الموجودة بالفعل. لكن الكيان الإسرائيلي المُحتمل اعتمد على إنشاء مستعمرات استيطان إثنية تستخدم العمالة المحلية من دون دمجها بالمجتمع الجديد، وإنما عزلها في محميات لضمان عدم اختلاطها بالتكوين الاجتماعي الأوروبي من جهة، ولإعادة إنتاجها باستمرار، من جهة أخرى.
تسمح لنا قراءة شافير بالاستفادة من مجموعة واسعة من المقارنات التاريخية بين المشروع الصهيوني والمجتمعات الاستعمارية الأخرى


في فلسطين اليوم، تقوم الدولة الاستيطانية الإسرائيلية بوصفها كياناً سياسياً يعبّر عن كتلة المستوطنين الاجتماعية وهويّتهم السياسية، أمّا السكان الأصليون فيعيشون داخل حدود الاستيطان من دون أن يكون لهم حقوق سياسية واجتماعية مساوية للمستوطنين، إذ عُزل السكان الأصليون داخل مجمعات سكنية مُسيّجة لإعادة إنتاج العمالة الرخيصة، في ظل نظام عنصري يفصل بين الكتلتين الاجتماعيتين.
تسمح لنا قراءة شافير بالاستفادة من مجموعة واسعة من المقارنات التاريخية بين المشروع الصهيوني والمجتمعات الاستعمارية الأخرى (الولايات المتحدة، جنوب أفريقيا، أوستراليا، الجزائر وكينيا،...)، بينما يظل مُحافظاً على السمات التاريخية والجغرافية والديموغرافية المحددة للصهيونية وفلسطين. وعلى الرغم من أن التشابهات جزئية (بين فلسطين وجنوب أفريقيا، في ما يتعلق بالفصل العنصري)، فإن استخدام لغة المقارنة يتيح اختراقاً مفاهيمياً بالغ الأهمية، إذ يعيد صياغة الصراع من قصة أخلاقية عن قوى الخير والشر في العالم ــــ نتيجة للارتباط الوثيق بين محاولة الإبادة الجماعية النازية وتأسيس دولة إسرائيل التي شجعها الكثير من الصهاينة ــــ ويضعها في صيرورة تاريخ البشرية الحقيقي.
رفض شافير التأويلات المهيمنة على دراسة النماذج الاجتماعية الإسرائيلية، وأبرزها: التأويل الوظيفي الذي يُعطي الإيديولوجيا دوراً رئيساً في بناء الدولة والمجتمع الإسرائيلي مع إقصاء جميع العوامل المادية (الاقتصاد، العسكرة،...). ونظرية النخبة التي تُحلل علاقات القوى في المجتمع من منظور دور التكتلات الاقتصادية المؤثرة على البيئة السياسية. فعلى الرغم من كونها أكثر واقعية، فإنها محدودة للغاية في مفهومها السياسي لاستغراقها في الرومانسية التي تجاهلت تماماً ظروف الحياة للمستوطنين الأوائل، ما جعل الصراع بينهم كمستوطنين والعرب الفلسطينيين غير مرئي. لذا يؤكد شافير أن ما يستحق الدراسة في المجتمع الإسرائيلي هي الظواهر التي برزت تحديداً نتيجة الصراع المباشر بين المستوطنين المهاجرين اليهود والسكان العرب الفلسطينيين على الأرض.
يجادل شافير بأن الشروط المسبقة للاستيطان الصهيوني في فلسطين كانت متوفرة، مثل: وجود سوق للأراضي جرى إنشاؤه من خلال اندماج الإمبراطورية العثمانية في السوق الرأسمالية العالمية، وقلّة السكان العرب الفلسطينيين في السهل الساحلي والأودية الداخلية، إن لم يكن في الجبال الوسطى. إذاً، يُقدَّم تاريخ الهجرة الأولى (1882-1903) كمحرّك لإنشاء مستعمرات استيطانية محضة. آنذاك، لجأ المستوطنون إلى المستعمرات التي موّلها البارون روتشيلد لزراعة الكروم وتوظيف العمالة الفلسطينية العربية الرخيصة.
شهدت الهجرة الثانية (1903-1914) حملة استيطانية محضة متجددة تميزت بتصميم العمّال اليهود المهاجرين على طرد العمّال العرب من سوق العمل ــــ «احتلال العمل». على الرغم من فشل استراتيجية الإقصاء التام، جرى تقسيم سوق العمل بنجاح، وكذلك تحديد الأجور اليهودية عند مستويات أعلى من الأجور العربية، برغم استمرار العرض الوفير للعمالة العربية الرخيصة في ممارسة ضغط تنازلي على أجور اليهود، ما يجعلها غير كافية لإعالة أسرهم.
ورغم تلك الاقتصادوية في التفسير مِن قبل شافير وإقراره بنمط الاستعمار المحض، لكنه أقصى الإيديولوجيا ودراسة الحياة السياسية مِن الصراع الفلسطيني ــــ الإسرائيلي، لذا لم يُلق الضوء على مفهوم «الرأسمالية الاستيطانية» الذي يرى اقتصاد الكيان الإسرائيلي يتطوّر بشكل مختلف عن الدول الرأسمالية الأوروبية، وبشكل مختلف أيضاً عن دول الجنوب التابعة. فالاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي بدأ بإبادة السكان الأصليين ثم تدمير أي نمط إنتاج قائم وتفكيك كُل البنى المؤسساتية والاجتماعية والاقتصادية ليحصل على أرض فراغ يعيد بناءها وفقاً لرؤيته القومية أو الدينية أو العرقية.

هجرة اليهود اليمنيين وتوزيعهم حصراً على المستوطنات الزراعية المختلطة القديمة (موشاف) ساهم بشكل كبير في تهجير العمالة العربية


لذا بعد فشل العمّال اليهود في احتلال العمل، بدأ زعيم جمعية «أغودات يسرائيل» جهداً لتشجيع هجرة اليهود اليمنيين إلى فلسطين. إن مناقشة هذه المحاولة لإرضاء المصالح القومية الرأسمالية واليهودية وفشلها النهائي هو إحدى النقاط البارزة في الكتاب، حيث تتعرض التجريدات الميتافيزيقية، مثل «وحدة الشعب اليهودي» لنقد كبير. ويرى شافير أن مكانة اليهود الشرقيين وموقعهم الطبقي مرتبطان تاريخياً بفكرة أن «قيمتهم الوطنية» كانت أقل من قيمة الأوروبيين، بمجرد أن أصبحت المهمة الرئيسية للمستوطنين الصهاينة إقامة مستوطنات يهودية حصرية على قطع الأرض غير المتوفرة.
هجرة اليهود اليمنيين وتوزيعهم حصراً على المستوطنات الزراعية المختلطة القديمة (موشاف) ساهم بشكل كبير في تهجير العمالة العربية، وأتاح فرصة لإبعاد اليهود الشرقيين عن «الكيبوتس» ــــ المزارع الجماعية التي جرى تطويرها لتخصيص الأراضي لليهود الأشكناز (الغربيين). وهذا كان محاولة للحفاظ على مستوى معيشي أوروبي في مواجهة الضغط الهبوطي على الأجور.
الإطار التحليلي والبيانات التاريخية التي يقدّمها شافير، وخصوصاً حكاية اليهود اليمنيين مقلقة بما يكفي لسيادة الأساطير الصهيونية وتكشف حقيقة أن الأصول والسياسات المبكرة للأحزاب الصهيونية العمالية، والدفاع اليهودي المسلح عن النفس (هاشومير) والزراعة الجماعية (الكيبوتس) لم تكن ناتجة من الالتزامات الأيديولوجية السابقة للصهاينة الأوائل، بل تمّت صياغتها في سياق الصراع بين المستوطنين الصهاينة والفلسطينيين الأصليين على حدود الاستيطان.
من بين أهم استنتاجات شافير أن استراتيجية الحركة العمالية اليهودية المتمثلة في «احتلال العمل» أدّت إلى تفاقم الصراع القومي وسمحت للعمّال باستخدام هذا الصراع لتعزيز نضالهم من أجل البقاء الاقتصادي، وفي الوقت نفسه تثبيت مصلحتهم الخاصة باعتبارها مصلحة عامة للأمّة اليهودية.
وهكذا، رسخت الصهيونية العمّالية هيمنتها على الحركة الصهيونية الاستيطانية، على الرغم من الدور الغالب لليهود البورجوازيين الألمان في المنظمة الصهيونية العالمية حتى عشرينيّات القرن الماضي. فقد طوّر الفلاحون اليهود البورجوازيون، الذين أرادوا توظيف عمالة عربية رخيصة قومية أكثر اعتدالاً من العمّال اليهود. ولكن متابعة استراتيجيتهم الاستيطانية المتمثلة في إنشاء مستعمرة زراعية لم تكن لتوفر فرص عمل للعديد من المستوطنين اليهود الجدد، وكان من الممكن أن تتباطأ الهجرة. بل أكثر مِن ذلك، فقد عارض المزارعون اليهود ذوو التوجهات البورجوازية محاولة الحركات العمّالية إنشاء وحدات حراسة زراعية يهودية (هاشومير) لأنها تنطوي على أعمال عدوانية واستفزازية تجاه العرب، لكن الحركة العمّالية رأت أن «جنود الحراسة» ضرورة لـ«احتلال الأرض».
تجاهل شافير دور ضباط الجيش في الحركة الصهيونية العمّالية، رغم أنهم امتلكوا مراكز قيادية ما جعل تفسيره الاجتماعي يفتقد أيّ بُعد جيوبوليتيكي؛ فمن الجدير بالذكر أن الاحتلال الإسرائيلي (بقيادة بن غوريون آنذاك) توقف عن توسيع احتلال ما تبقى من فلسطين بعد عام 1948، ليس لأنّ لديهم منظوراً اقتصادياً لكيبوتس حيث يفضّلون دولة يهودية أصغر بأجور مرتفعة، لكن لأن احتلال كل فلسطين آنذاك في نظر الصهيونية كان سيدخل دولة إسرائيل الوليدة في صراع مع شرق الأردن (شريكها في تقسيم فلسطين)، ومع بريطانيا، وربما مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فقد كان نجاح الصهيونية العمّالية متجذراً في التناقض بين الأهداف الرأسمالية والقومية في سياق «الصراع الفلسطيني ــــ الإسرائيلي» على الأرض. كانت استراتيجية حزب العمل، المتمثلة في تسويق تطلعات الصهيونية (بوصفها حركة تحررية تنقذ ضحايا المحرقة النازية) مع ترسيخ الحصرية اليهودية على الأرض التي يمكن أن تسيطر عليها، أكثر جدوى وأكثر قبولاً من قبل رعاة الصهيونية الدوليين من الرؤية البورجوازية الزراعية. وهذا بالإضافة إلى دور الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الهائل واللامحدود الذي تقدّمه الولايات المتحدة لإسرائيل، ما مكّنها من الحفاظ على احتلال عسكري وحشي والاستيلاء على الأراضي والموارد الأخرى من السكّان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، وغرس الكتل الاستيطانية اليهودية هناك، وشن هجمات عسكرية متكررة على الفلسطينيين ودول الجوار، والامتناع عن التوصل إلى أي «حلول سلمية عادلة». لذا، فإنّ أيّ تفسير لنجاح استراتيجية الصهيونية العمّالية والمشروع الصهيوني الأوسع لإنشاء دولة يهودية في أرض ذات أغلبية عربية ساحقة مرتبط بمقدار العنف الذي حصل بالفعل حتى قبل النكبة عام 1948.