في عام 2015، تلقّى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، رسالة تعزية من القائد العام لـ«كتائب القسام» محمد الضيف، بعد اغتيال العدو مجموعة مقاومين في القنيطرة السورية. قال الضيف في رسالته: «بات لازماً على كل القوى المقاومة والحيّة في الأمّة أن تدير معركتها القادمة واحدة، تتقاطع فيها النيران فوق الأرض المحتلة». حينذاك، ربما بدا هذا الكلام مجرد مشاعر عاطفية. في ذاك العام، كان المحيط الاستراتيجي لإسرائيل مريحاً: حزب الله منشغل في سوريا، الجيش السوري جرى تدمير قدراته، غزة معزولة وخارجة من عدوان 2014، الضفة هادئة نسبياً برغم من «هبة السكاكين» التي استطاع العدو والسلطة خفض وتيرتها، ما جعل كلام الضيف حينها كما لو أنه خارج الواقع. لكن منذ الكلام الصادر عمّن لديه علم وإدراك بالواقع الاستراتيجي المتغيّر لإسرائيل، عملت المقاومتان في غزة ولبنان على زيادة التنسيق بينهما، على الصعيد العسكري، والسياسي لاحقاً، وذلك بعد انتخاب إسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي لـ«حماس». ومنذ عامين، شهد الواقع الاستراتيجي الإسرائيلي تحوّلاً، بعد انتهاء المعارك في سوريا وسيطرة الدولة على معظم أراضيها. راقب العدو عودة القوات الخاصة لحزب الله، «فرقة الرضوان»، وانتشارها على الحدود مع فلسطين. كتب كثير من المحللين العسكريين الإسرائيليين عن الواقع الجديد والخطر الذي تشكّله هذه القوات، خاصة بعد الخبرات التي استحصلت عليها من المعارك الحية التي خاضتها في سوريا، وبذلك أصبح لدى حزب الله جيل مقاتل خاض حرباً حقيقية، تعلّم إدارة سلاح المدفعية والطيران ميدانياً، على عكس جنود جيش العدو الذين لم يعيشوا منذ عام 2006 أي حرب فعلية. هذا الواقع الجديد عبّر عنه قائد فرقة 91، «فرقة الجليل»، العميد شلومي بنيدر، في مقابلة مع صحيفة «هآرتس»، حيث اعتبر أنه أصبح لقوة «الرضوان» أدوات «لم تكن لديها في عام 2006، على رأسها برنامج وقدرة هجومية في أراضينا. لقد زادت منظومة النيران الموجّهة إلى جبهتنا الداخلية وحسّنت قدراتها الدفاعية أمام عملية برية إسرائيلية»، مكرراً وصف رئيس الأركان أفيف كوخافي بأن حزب الله أصبح «جيش إرهاب، وإحدى الدلائل الواضحة على الانتقال من عصابات إلى جيش هي تطوير تشكيلات هجومية واسعة». وأقرّ بأن عناصر «الرضوان»، «يقتربون من القدرات التي توجد لدينا. هم يعرفون العمل مع غطاء استخباري ومع النيران والوسائل القتالية الأخرى، مثلما فعلوا إلى جانب الروس والإيرانيين في القتال في سوريا».
أمّا في ساحة غزة، فالمقاومة في حالة تطور كبير. قدرات القوات الخاصة لفصائل المقاومة، خاصة القوى البحرية، تؤرق قادة جيش العدو، وهو ما دفع حكومة العدو إلى بناء عائق بحري وجدار حول القطاع خوفاً من هجوم المقاومين. إسرائيل التي ارتكبت المجازر في عام 1948 لتفريغ الأرض من الفلسطينيين لا تستطيع اليوم إخلاء عائلة واحدة في حي الشيخ جراح خوفاً من صواريخ المقاومة.
تدهور الواقع الإسرائيلي ليس منحصراً بالجيش، أداة العدو الضاربة، فالمجتمع أيضاً تغيّر


في المقابل، يعيش الجيش الإسرائيلي حالة تدهور وتراجع، ظهرت في انخفاض الدافعية في التجنيد في سلاح المشاة والمدرعات، إذ كشفت «القناة 12» أنه في آذار الماضي اضطر جيش العدو للتعامل مع مشكلة غير متوقّعة، حيث رفض حوالي 50 مجنداً الخدمة كمقاتلين في سلاح المدرعات، ما أجبر الجيش في قاعدة الفرز والاستيعاب على اتخاذ سلسلة من الخطوات لإقناعهم، فاستدعي ضباط من سلاح المدرعات لإجراء محادثات تحفيزية مع الرافضين. وقد أخذ 30 من الشبان الرافضين لمشاهدة تدريب للدبابات بالذخيرة الحية جنوب فلسطين المحتلة، حيث اقتنع بعضهم بالفعل، لكن عشرة منهم على الأقل أصروا على موقفهم فوضعوا رهن الاحتجاز في قاعدة الفرز والاستيعاب. انخفاض دافعية الخدمة في الألوية القتالية ليس محصوراً في سلاح المدرعات، ويصل إلى أكثر الألوية أهمية: لواء المشاة - العمود الفقري لأي جيش. فقد اعتبر مفوض شكاوى الجنود السابق إسحاق بريك، في مقال في «هآرتس»، أنه يجب إخراج سلاح المشاة «من انحطاطه: ترتيب القوات والميزانية والقوة البشرية التابعة لسلاح المشاة تم تقليصها في السنوات الأخيرة إلى تحت الخط الأحمر»، مشيراً إلى أن الجيش، وعلى عكس ما يدّعيه، «لا يمكنه الرد في حرب متعددة الجبهات. أي خمس جبهات في الوقت ذاته: لبنان وسوريا وغزة واشتعال في يهودا والسامرة (الضفة) لعشرات آلاف الأشخاص من التنظيمات المسلحة وفوضى يقوم بها آلاف المشاغبين العرب والبدو داخل إسرائيل الذين لديهم سلاح وذخيرة». ووصف قوات الاحتياط بأنها «غير مؤهّلة للحرب ووصلت إلى الحضيض»، مؤكداً أن الجيش يمكنه «التعامل بصعوبة مع جبهة ونصف جبهة وليس مع خمس جبهات مثلما ستكون الحال في الحرب القادمة». انخفاض الحافزية لدى جيش العدو طاول ضباطه، الذين أكد بريك أن السنوات الأخيرة شهدت هروب بعضهم ومنهم ضباط «جيدون برتبة رائد، إلى الخارج، لأنهم لا يريدون الخدمة في جيش متوسط الحجم لا يحترم قدراتهم، ولا يعطيهم حقهم»، إذ يفضل هؤلاء العمل كمستشارين في شركات تعطيهم معاشات ومميزات تفوق التي يقدمها لهم العدو.
الجدير ذكره أن شخصية وعقلية ونفسية ونوعية الضباط الموجودة حالياً تختلف عن تلك التي كانت موجودة خلال النكبة. الخبرة التي استحصل عليها هؤلاء بقتالهم مع الإنكليز خلال الحربين العالميتين، الأولى والثانية، جعلتهم أفضل من الضباط الإسرائيليين الموجودين في الجيش الإسرائيلي حالياً، إذ قد يقضي أحدهم طوال فترة خدمته على جبهة هادئة لا تتحرّك ويكون همّه محصوراً بالحياة والعمل بعد تقاعده.
وتدهور الواقع الإسرائيلي ليس منحصراً بالجيش، أداة العدو الضاربة، فالمجتمع أيضاً تغيّر، وما كان موجوداً عام 1948 وما قبله انتهى؛ لا استعداد للتضحية ولدفع الثمن الذي دفعه الأسلاف عند تأسيس الكيان. هذا ما انعكس على أداء الجيش الذي يخشى من شن أي حملة برية خوفاً من رد فعل أهل القتلى. كما أن حالة الرفاهية التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي ستنعكس سلباً عليه في أي حرب مقبلة، ما يحتم على هؤلاء تغيير نمط حياتهم المترف. لهذا الغرض كرّر قادة الجيش أنه في أي حرب مقبلة مع أي جبهة لن يستمر سكان تل أبيب في احتساء القهوة في المقاهي وعليهم الهروب إلى الملاجئ، وهو ما أثبتته حرب العام الماضي.
واليوم، الوعي لدى الإسرائيليين لم يعد مثلما كان في عام 1948؛ لم يعد هناك أشخاص مثل الآباء المؤسسين للكيان أغلبهم ناجون من المحرقة النازية أو آباؤهم ناجون منها. فهم عندما قاتلوا في ذلك العام كانوا يقاتلون لتأسيس حلمهم وملجئهم. و«التعاطف الدولي» الذي كان موجوداً تجاههم حينذاك لم يعد موجوداً يومنا هذا، وهو ما تحاول الخارجية الإسرائيلية التصدي له، خاصة مع بروز جيل في الجامعات الأميركية لا يبتلع الرواية الإسرائيلية كما هي.
وعلى رغم المسار الانحداري لواقع الكيان، فإنه في بعض المحطات يجد من يحاول انتشاله، مثل الدول العربية المطبّعة. لكن، في المقابل، هناك محور تشكّل العام الماضي خلال معركة «سيف القدس»، يمتدّ من طهران إلى غزة. محور شاركت غالبية قوى المقاومة الموجودة في مختلف ساحاته، كلٌّ بطريقتها، في المعركة: مُسَيَّرات من سوريا والعراق، إطلاق صواريخ من لبنان، وتواصل حركة «أنصار الله» اليمنية مع المقاومة في غزة بهدف التعاون لقصف جنوب فلسطين المحتلة. محور أكد في عام 2021 ما جاء في رسالة الضيف عام 2015: في أي حرب كبرى سـ«تتقاطع النيران فوق الأرض المحتلة».