يقوم المشروع الاستعماري الغربي في بلادنا على ركيزتَين متكاملتَين بالأثر والتأثير، وهما: إسرائيل والتقسيم. وإلى جانب التفوّق العسكري والاقتصادي، يرتكز مشروع العدوّ على ترسيخ التقسيمات الاستعمارية، ليس جغرافياً فحسب، بل على صعيد الوعي أيضاً. فكما تثبيت إسرائيل يمرّ عبر التطبيع وتشويه بوصلة العداء، كذلك، فإن ترسيخ التقسيم يتمّ عبر بثّ النزعات الانعزالية وتطويرها. يعرّف عصمت سيف الدولة النزعات الانعزالية العربية عبر مصطلح «الإقليمية»، الذي يقوم جوهره على التسليم بالتقسيمات الاستعمارية والتعامل معها على أنها تكوينات اجتماعية قائمة بذاتها، وبالتالي الانطلاق منها في تعريف الشعب ومصالحه وتوجّهاته. ترتبط النزعات الإقليمية بتقسيمات «سايكس - بيكو» التي مهّدت الطريق لقيام إسرائيل وتأمينها عبر منع أيّ شكل من أشكال الوحدة العربية. وخلال الحرب الأهلية اللبنانية، انتشر مفهوم «القوى الانعزالية» لوصف الأحزاب الفاشية التي قامت على فكرة الانعزال عن المحيط العربي والارتباط بالمشروع الاستعماري. لكن النزعات الانعزالية لم تقتصر على لبنان، بل يمكن تتبّعها في كلّ قُطر عربي على مراحل مختلفة. ففي مصر، شكّلت النزعة الانعزالية الدعامة الأقوى لنهج أنور السادات في تبرير توجّهه إلى الحضن الأميركي عبر عزل القضية العربية عن الوجدان الشعبي المصري، وذلك بتصويرها مسألة «فلسطينية» أدّت فيها مصر واجبها «كاملاً». أطلق السادات نهج «مصر أوّلاً» الذي تطوّر فيما بعد ليشمل تشكيكاً في الهوية العربية ومحاولات لاستبدالها بهويّات تاريخية مختلفة بحسب الأقطار (الفرعونية أو الفينيقية...)، كلّ ذلك في سبيل تعزيز الإقليمية وحصْر الوعي العربي داخل الحدود الاستعمارية. ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل لبس الخطاب الانعزالي لبوس «الثورة»، فجاء في صلب أحداث لبنان عام 2005، حين ارتفع شعار «لبنان أولاً» للتصويب على دور المقاومة اللبنانية في القضية العربية. ويستمرّ الفكر الانعزالي في التشعّب من خلال وسائل الإعلام، تحديداً بعد عام 2011، إذ يروّج بعض المثقّفين العرب له من بوّابة «أولوية تحرّر الشعوب من الديكتاتورية»، فيصبح اليمن قضية اليمنيّ، وسوريا قضية السوريّ، وفلسطين قضية الفلسطيني... فقط. وفلسطين ليست استثناءً في هذا المجال، لا بل إن عوارض انعزالية جديدة تتولّد على الساحة الفلسطينية بعد كلّ حدثٍ مفصليّ يهزّ أركان المشروع الاستعماري.
تاريخياً، شكّلت الانعزالية منهجاً للقيادة المتنفّذة في «منظّمة التحرير»، والتي لعبت على وتر الاضطهاد الفلسطيني لتملك به ورقة تفاوض تسمح لها بالبحث عن «كرسيّ» على المسرح الأميركي. وهنا، لا بدّ من التمييز بين الروح الوطنية الفلسطينية وبين الفكر الانعزالي؛ فالأولى هي جزءٌ طبيعي من تشكيلات الهوية العربية الفلسطينية، وقد شكّل الحفاظ عليها ضرورةً في مواجهة مشروع الصهاينة لإذابة الفلسطينيين في المحيط العربي. في المقابل، فإن الفكر الانعزالي يمثّل النهج السياسي الذي يعزل السياق الفلسطيني عن معركة التحرّر العربي، وينطلق من التقسيم الاستعماري لفلسطين سواءً في الجغرافيا (تعريف الأرض المحتلّة) أو في الديموغرافيا (تعريف أصحاب القضية). وقد عبّر جورج حبش عن خطورة هذا الفكر حين اعتبر أن «سيادة الروح القُطرية الفلسطينية كما عبّرت عنها القيادة الفلسطينية المتنفّذة بزعامة عرفات، والتي رفعت شعار «يا وحدنا»، ]...[ قاد في النهاية إلى تحرير العرب من فلسطين، وصولاً إلى كارثة أوسلو».
يعكس الخطاب الانعزالي الفلسطيني خللاً في فهم طبيعة الحرب القائمة ضدّ شعبنا العربي


لكن الانعزالية الفلسطينية لم تقتصر على محاولة نزع الفلسطينيين عن بُعدهم العربي، بل تطوّرت لتشمل محاولات عزلهم عن بعضهم البعض. فالاستراتيجية الصهيونية بعد عام 1948 قامت على فصل الساحات الفلسطينية سياسياً ونفسياً بعد فصلها جغرافياً ولوجيستياً. ونظراً لغياب عوامل شرخ إيديولوجية أو عقائدية، كان الوتر الأبرز لتعزيز الشرخ الفلسطيني هو مقارنة «الأثمان» التي تقدّمها الساحات. فخلال حقبة الثورة الفلسطينية، كانت بعض الأصوات الانعزالية ترتفع في الشتات متسائلةً: «لماذا تدفع المخيّمات وحدها ثمن المواجهة». وفي الحقبة الزمنية نفسها، كان التساؤل الانعزالي نفسه يُطرح في ساحة الداخل، حيث روّجت التيارات الاستسلامية لمفهوم «خصوصية الداخل» الذي سعت من خلاله إلى تحويل النضال الفلسطيني إلى معارك تحسين شروط ضمن مشاريع الأسرلة القائمة. وما لا شكّ فيه أن «اتفاقية أوسلو» شجّعت الخطاب الانعزالي في كلّ الساحات، مع ترسيخها «حدود» التقسيم السياسي بين فئات الشعب الفلسطيني.
واليوم، بعد تمركز المقاومة الفلسطينية المسلّحة في غزة، عاد الخطاب الانعزالي ليطلّ برأسه من ساحتها، تحديداً مع كلّ جولة تصعيدية. وقد برزت الأصوات الانعزالية بقوّة خلال معركة «سيف القدس»، وذلك عبر التشكيك في نوايا وجدوى ردّ المقاومة الفلسطينية على الاعتداءات الصهيونية، حتى وصل الأمر بالبعض إلى اعتبار أن «صواريخ المقاومة خرجت لتحرف الأنظار عن النضال الشعبي في القدس»، وكأن غزة إقليم مستقلّ عن فلسطين والمنطقة بأكملها. في الواقع، إن المهمّة الرئيسة لأصحاب الخطاب الانعزالي في فلسطين هي الحفاظ على سطوة التقسيمات الاستعمارية في النفوس، ولذا نلحظ التناسب بين ارتفاع حدّة هذا الخطاب وبين أثر «سيف القدس». عمليّاً، يرتكز المنطق الانعزالي الفلسطيني على ادّعاء إنساني مزيّف، يختبئ أصحابه تحت عباءة المفاضلة بين الكرامة والحياة. على سبيل المثال، يتحوّل الحصار على غزة من جريمة يرتكبها العدو وأعوانه إلى أزمة إنسانية وجب حلّها سريعاً، عبر الضغط على الطرف الآخر في المعادلة، أي المقاومة. وبالمنطق نفسه، تتحوّل جرائم الاحتلال ضدّ شعبنا في غزة إلى «ويلات» يستجلبها السلاح، فيما هي جزء من حرب إلغائية مفروضة على شعبنا مهما كانت ردّة فعله. ويتكامل ذلك المنطق مع خطاب الأسرلة الذي يذهب إلى إدانة العمل الفدائي الفلسطيني «خوفاً» من انتقام العدوّ في الداخل. لكن في المقابل، لا يملك الخطاب الانعزالي أيّ تصوّر واقعي لتحقيق «الأمان» الذي يدّعي نصرته للشعب الفلسطيني. ومن هنا، ينكشف زيف الادعاءات الإنسانية، حين يتّضح أن كلّ الطروح «البديلة» ليست سوى وصفات مختلفة للاستسلام أمام العدو والرضوخ لشروطه.
أمّا الركيزة الثانية للخطاب الانعزالي فهي الفردانية المطلقة. إن التصويب على الفعل المقاوم من خلال التركيز على أثمانه فقط، هدفه عزل المتلقّي ضمن مربّع البحث عن خلاصه الفردي، وتغريبه عن فعل المقاومة، بحيث يشعر أن المعركة مع العدوّ لا تعنيه إلّا من ناحية البحث عن الأمان، أيّاً كان الثمن. وللمصادفة، فإن الجهات نفسها التي تركّز على الأثمان تتعامى عن الإنجازات، لا بل تقوّضها عبر تسخيفها والتهويل بردّ العدوّ عليها. وعلى المستوى نفسه، يسعى الانعزاليون عبر تخوين الساحات الأخرى إلى حصار أيّ حالةٍ مقاومةٍ شعبياً، من خلال تهشيم جدواها في معركة التحرير، وتعميم صورة التخاذل على باقي الساحات. هذا ما نراه مثلاً في حالة انزعاج الانعزاليين من هتافات تأييد المقاومة الصادرة من القدس والضفة والداخل.
في المحصّلة، إن الخطاب الانعزالي الفلسطيني يعكس خللاً في فهم طبيعة الحرب القائمة ضدّ شعبنا العربي، ما يجعل مواجهته ورموزه ضرورةً في القادم من جولات المواجهة مع العدو. فالحرب الاستعمارية تستهدف الوجود العربي بأسره، ومقاومة هذا المشروع لا تتمّ إلّا بضرب ركيزتَيه معاً: إسرائيل والتقسيم. ولعلّ الردّ الأجدى على الانعزالية الفلسطينية جاء من سماء فلسطين التي ما زالت إلى اليوم تردّد هتاف: «حطّ السيف قبال السيف».