بدا واضحاً، في أيار 2021، أنه وعلى الرغم من عمر المعركة القصير نسبياً قياساً إلى حروب غزة السابقة، فقد بحث المستويان السياسي والأمني في إسرائيل بشكل محموم عن صورة انتصار تَصلح لأن تتوقّف عندها المعركة. هذا الهاجس كان يحضر بشراهة في الحروب كافة التي خاضها الكيان ضدّ العرب، منذ عام 1948 وحتى اليوم، إلّا أنه في العصر الذي تغيّرت فيه النمطية التقليدية للخصم، من جيش بمقدّرات تقليدية (جيش مشاة، قطاع دبابات، سلاح طيران)، إلى جماعات بنت نظاماً هجيناً بين العصابة والتنظيم، لم يَعُد تحقيق هدف كهذا ممكناً بالسهولة السابقة. صحيح أن الاندفاعة الإسرائيلية إلى الحرب جاءت في إطار ردّ الفعل على تنفيذ المقاومة تهديدها بقصف مدينة القدس المحتلّة قبيل الخروج في «مسيرة الأعلام»، وأن العدو لم يحدّد أهدافاً معلَنة كما في جولات سابقة، مِن مِثل وقف إطلاق الصواريخ، أو إعادة الجنود الأسرى، أو إسقاط حُكم «حماس»، إلّا أنه بدا أن جيش الاحتلال قد امتلك، بعد قرابة 6 سنوات من آخر معركة مع غزة، بنك أهداف يؤهّله لتحقيق منجزات كبرى على حساب المقاومة. وبعد مرور عشرة أيام من عمر الحرب، وحينما لم تفلح الآلة العسكرية سوى في تحقيق مزيد من الدمار، وجد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، نفسه، كَمَن علق بين خيارين أحلاهما مرّ؛ فلا الاستمرار في حرب جوّية تجاوز عدد ضرباتها في أسبوعها الأول 1700 غارة، يضمن له تحقيق أهداف تبيّض صورته المشوّهة داخلياً، ولا وقْفها دون إنجاز يذكر يعفيه من مصيره المحتوم إلى السقوط. وهذا المأزق تناوله عدد من الكتّاب الإسرائيليين بالتهكّم، حين ذكّروا نتنياهو بمقترح السيناتور الأميركي، جورج آيكن، على الرئيس ليندون جونسون في ذورة حرب فيتنام، بأنْ: «حسناً، لِنعلِن أننا انتصرنا ونخرج».
تمكّنت المقاومة من تصدير صورة إعلامية مدروسة، أبرزت تحكّماً عميقاً بعناصر الميدان


وفي الساعات الأخيرة من عمر الحرب، كان نتنياهو قد اجتمع بـ70 سفيراً دولياً في مقرّ وزارة الدفاع في تل أبيب، حيث ظهر كَمَن يبرّر استمرار الحدث من دون وجود غايات قابلة للتحقيق. حينها، كانت طائرات الجيش قد استنفدت كلّ ما لديها من أهداف محتملة، بعدما دمّرت أبراجاً ومربّعات سكنية بأكملها أملاً في النجاح في اغتيال محمد الضيف، أو مروان عيسى، أو يحيى السنوار، وقصفت شوارع وبنىً تحتية لتدمير شبكة الأنفاق، مستخدِمةً لأوّل مرّة سلوك الحزام الناري لقطْع وسائل الاتصال التي تظنّ أن المقاومة قد بنتها. كلّ ذلك علّق عليه شمعون شفير، وهو كاتب إسرائيلي مشهور، في مقال نشرته آنذاك صحيفة «يديعوت أحرونوت» بقوله: «لا تبحثوا عن صورة الانتصار، رغم التدمير فإن قصف الصواريخ سيستمرّ حتى ساعة الإعلان عن وقف النار... حماس أحيت الهوية الفلسطينية ونحن أخطأنا».
في مقابل ذلك، تمكّنت المقاومة من تصدير صورة إعلامية مدروسة، أبرزت تحكّماً عميقاً بعناصر الميدان، ولم تنخدع بالدعاية الإسرائيلية التي شاركت فيها وسائل إعلام عربية حول نيّة العدو اجتياح القطاع برّياً، وأفشلت بذلك «خطّة المترو» التي كان يُراد منها القضاء على مئات عناصر المقاومة داخل أنفاقهم. كما حافظت، طوال أيام الحرب، وخصوصاً عقب انتهاء كلّ جولة جوّية، على «ريتم» مدروس، تعمّدت من خلاله إهانة العدو، عبر تحديد ساعة إطلاق معيّنة لدفعات كبيرة من الصواريخ، ومن هذا ما ردّت به المقاومة على تدمير برج الجلاء في اليوم الخامس من العدوان، حين خاطب الناطق العسكري باسم «كتائب القسام» سكّان تل أبيب بقوله: «بعد قصف البرج المدني في غزة، على سكان تل أبيب والمركز أن يقفوا على رجلٍ واحدة وينتظروا ردّنا المزلزل».