خلفية:خلال هبّة الكرامة 2021 وما تلاها، شنّت قوات الاحتلال حملة اعتقالات كثيفة في صفوف الشبان الفلسطينيين من أبناء الداخل المحتلّ عام 1948 والقدس، والتي قد فاقت الألفين من المعتقلين خلال ثلاثة أسابيع فقط. القدر الأكبر من هذه الاعتقالات شمل تحقيقات عنيفة، اعتداءات بالغة على المعتقلين الذين كان أغلبهم يخوض تجاربه الأولى في الاعتقال بحكم صغر السنّ، إذ تركّز معدّل أعمار المعتقلين في أوائل العشرينيات.
نشطت خلال هذه الفترة مجموعات مختلفة من المهنيين حاول كُلّ في مجاله مستخدماً مهنته/ا لإسناد أولاد شعبه/ا، ذلك بالرغم من الأثمان التي قد تترتّب على ذلك (وقد حملها البعض) في سياق دولة استعمارية تهدف بحكم طابعها إلى محو المجتمع المُستَعمر بما فيه من موارد وقوى ومصادر لصموده، والتي على أساسها تقف «علاقة الأهالي» و«الحس النفسي المجتمعي كمسؤولية». هاتان القوّتان اللتان قد بُنيت عليهما مبادرات إسناد عديدة في هبّة الكرامة - أيّار 2021، وفي ما تلاها، واللّتان كان قد راهن الاستعمار على اندثارهما بعد جهوده الحثيثة لتحقيق ذلك.
يضيء هذا المقال على سياق نشوء مبادرات الإسناد لدى الشعب الفلسطيني ونخصّ بالذكر مبادرة الإسناد النفسي المجتمعي لعائلات المعتقلين التي نشأت هي الأخرى على ضوء الهبّة الشعبيّة في أيار من العام 2021.
في محاولةٍ لتعريف مفهومي الحِس النفسي المجتمعي كمسؤوليّة وعلاقة الأهالي، نستعين بقصة قصيرة حول تجربة أسيرات سياسيّات سابقات:
اجتمعت قبل أعوام قليلة ثلاث أسيراتٍ فلسطينيّات سابقات كُنّ قد سُجِنّ معاً قبل ما يُقارِب الأربعين عاماً، وكُن قد افترقن بحكم إبعاد إحداهنّ لخارج فلسطين بعد تحرّرهن من الأسر. حمل هذا اللقاء الكثير من الحنين والأشواق كما قد نتوقّع لنساء قد خُضنَ تجربة نضالية مكثّفة مشتركة. لكن أكثر ما لفتنا حينها هو امتناع إحدى الأسيرات عن أكل عدّة أصناف من الفاكهة منذ لحظة تحرّرها، وحتى وقتنا هذا، الأمر الذي ظهر خلال هذا اللقاء. وحين اكتشفت الرفيقاتُ هذا، بدأن باحتضان بعضهن وبالبكاء. وحين استفسرنا عن الأمر، وجدنا أنها قد بدأت خلال سنوات أسرها بالامتناع عن أكل أصناف الفاكهة القليلة المتوافرة في السجن، ذلك في محاولة لتقديم حصّتها لرفيقتها في الأسر والتي عانت من مشكلة صحيّة جعلتها تمتنع عن أكل النشويات والتركيز على أكل الفاكهة والخضار. ويبدو أن جسد الأسيرة التي تخلّت عن أكل الفاكهة من أجل زميلتها قد اعتاد ذلك حتى بات رافضاً للفاكهة عند توافرها بعد الأسر.
هذه القصّة تختصر مفهومي «الحِس النفسي المجتمعي كمسؤوليّة» و«علاقة الأهالي».
ففي المجتمعات الجمعيّة التي تشكّلت النفس البشرية فيها حول وجودها ضمن جماعة بشكل ممتد وفي ظروف نضاليّة، تستدخل النفس هذه الجماعة كـ«مسؤوليّة» يقع على الفرد حفظها، ولا ترى الجماعة فقط كـ«مورد للدعم» كما تعرّفها النفس البشرية في المجتمعات الفردانيّة. وبالتالي يدرك الفرد قيمته المجتمعيّة بما يُقدّم ويُضحي من أجل المجموعة وليس فقط بما قد يمكنه الاستفادة منها.
وترتكز صيانة هذا المُركّب بمركب آخر وهو «علاقة الأهالي» - أي علاقة أولاد الشعب الواحد ببعضهم وبالمكان وبتاريخهم وبتجاربهم وبقيَمهم وأعرافهم. ذلك إن حتّمت هذه القيم الراسية في حياة المجتمع والممارسة في روابطه، الإبقاء على استقاء قيمة الذات وتقدير الجماعة من خلال التقديم لها والتضحية من أجلها. وكما يتعجّب البعض من قصّة الأسيرات المذكورة آنفاً، تعجّب آخرون لدى شبوب الهبّة الشعبية- هبّة الكرامة في أيار الماضي. وقد يتصل هذا التعجّب بالتحوّل الذي طرأ على حياة المجتمع الفلسطيني خلال العقدين الماضيين والمرتبط بدخول المؤسسات الرسميّة إلى حياة الأهالي، ومحاولة تحويل طابع العلاقات لديهم من «علاقة أهالي» إلى «علاقة مواطنين» - بمعنى كونهم أفراد علاقتهم ليست ببعضهم البعض وإنما بين كل منهم كفرد مقابل مؤسسات الدولة. إن هذه المحاولات لفردنة أولاد الشعب الفلسطينيّ قد برزت أيضاً بشكل حاد في ممارسات الاستعمار خلال هبّة أيار الماضي.
نتناول في السطور التالية هذه الممارسات الصعبة التي اتبعتها ذراع الاستعمار الشرطوية والاستخباراتيّة، مثل التخويف والترويع والردع والثني عن النضال، في محاولة لتسبيب أذى نفسي لشبابنا، ذلك كما وتأطير هذه الممارسات في إطارها السياسيّ. ننتقل بعدها إلى عرض آلية عمل مجموعة الإسناد، وصولاً إلى القوى المهيبة التي لمسنا وجودها خلال تدخّلاتنا والتي نرى من بالغ الأهمية التشديد على حضورها. وسنختم بقصة أخرى من أحداث أيّار لنُشير إلى هذه القوى التي ما زالت حيّة بين أولاد شعبنا حتى الصغار منهم.

عن ممارسات الاستعمار مع المعتقلين ومحاولات تسبيب الضرر النفسي لهم ولعائلاتهم:
مع اشتداد المواجهات وازدياد حالات الاعتقال، برز عدد من الأساليب التي انتهجتها السلطات لإلحاق الأذى النفسي بالمعتقلين بهدف ثنيهم عن النضال، ومنها:
-الفردنة: قد تكون الفردنة في حالة الاعتقال السياسيّ من أصعب الممارسات التي ينتهجها المستعمِر لأنها تسعى لإفقاد المعنى أو الرمزية التي يحملها المعتقل كدافع لسلوكه وتنزع عنه سياقه. فمن خرج ليرفع الظلم عن جماعة يٌجرّد أصلاً من صلته معها. ويتمثل هذا التجريد بمنعه عن الاتصال مع العالم الخارجي، والمتمثل بعائلته ومحاميه حتى، وبإخباره أنه الآن وحده، وأن من خرج للتعبير عن رأيه من أجلهم قد تركوه وذهبوا وهو الوحيد «الخاسر» الآن.
ويشمل هذا إشعار المعتقلين بالذنب لكون عائلاتهم وحدها هي من ستدفع الكفالة والثمن، وأنهم ليسوا جزءاً من شعب وامتداد يُقهر في الداخل المحتل عام 48 وفي الضفة وفي غزة وفي مخيّمات اللجوء وفي الشتات، بوجوه مختلفة للقهر. إن اعتماد أذرع الاستعمار على هذه الآلية تقوم بالأساس على بعثرة تماسك الرواية لكل من هؤلاء المعتقلين ومدى كونها محبوكة مع الرواية الجمعية التي تحدد البوصلة وتوضحها: من نحن، من أين أتينا، ولماذا نحن في هذا الوضع الحالي. إن هذه البعثرة تسهم في تردد المعتقل وتبنيّه واستدخاله للرواية التي يحاول الاستعمار تجريعه إياها: أنت وحدك، وأنت مخرّب.
-التعذيب الجسدي: لوحظ استخدام آليات تعذيب جسديّ مثل الهزّ أو الرّج القوي الذي قد يُسبّب إن اشتد ضرراً جديّاً، كما وحالات من الضرب المبرح في جميع أنحاء الجسد وعلى الرأس والوجه تحديداً. جزء من المعتقلين القاصرين تحديداً قد خرج مع نوبات من الهلع التي تخللها تسارع في النفس وفي خفقان القلب والرجفة.
- الحبس المنزلي: هنالك مركّب هام وإضافي حاول الاستعمار استغلاله وهو إعطاء كم كبير من عقوبات الحبس المنزلي أثناء أيار الماضي. وهي آلية غالباً ما تستخدم في الحالات التي يتعذر فيها الاحتفاظ بالمعتقل في الحبس العادي - السجن الاستعماري في هذه الحالة، وهي الممارسة التي من المفترض أن تأتي لصالِح المعتقل. إلّا أن هذه الآلية تحمل أموراً صعبة جداً في طيّاتها، تحديداً في ما تحمله للعلاقات الأُسريّة ولإدراك المعتقل لذاته ولعائلته ولإدراك العائلة نفسها وولدها أيَضاً.
إن أحد الأمور المهمّة التي يستند إليها الاعتقال المنزليّ، تحديداً في حالات اعتقال القاصرين والأطفال، هو تعيين أحد الوالدين ككفيل وكحارس له، والذي يتوجب عليه ملازمة البيت معه، وبالتالي عدم الذهاب إلى العمل طوال مدة الاعتقال، مهما طالت. ذلك إضافةً إلى الكفالة الماليّة التي يتوجّب على العائلة دفعها. في هذه الحالة يُصبح ولي الأمر هذا، بغير إرادته، سجّاناً لولده، ينهيه عن كل ما يمكن أن يتخيله المعتقل منفذاً وتعبيراً عن حريته ورأيه. ويأمره أن «لا يخرج، لا يكتب، لا يقول، يلتزم الصمت...»، في حين إن الدور المتوقع منه كوالد الآن والذي يُلبي الاحتياج العاطفي والنفسي للمعتقل هو إسناد والديه واحتوائهم لتجربته.
في الجزء الآخر من صعوبة عقوبات الاعتقال المنزلي خلال أيار الماضي، كان طول مدّة العقاب، والتي في نتاجها قد تحمل ضرراً للمعتقلين، لأنها تؤثّر بشكل مباشر في حياة أولئك الفاعلين الذين لم يرضوا الهوان أو الاستكانة والذين تفاعلوا بشكل طبيعي مع واقعهم، فتحوّلهم إلى أفرادٍ محرومين من ممارسة حياتهم العادية واستكمال خططهم وتحقيق إنجازاتٍ فيها. هذا التحوّل في واقع تقدير المعتقل لذاته هو على رأس أدوات الاحتلال في ترهيب الأهل قبل المعتقلين.

عن مبادرة الإسناد النفسي المجتمعي لعائلات المعتقلين:
يأتي الافتراض عادة بأن الدعم النفسي مرهون بتلقي علاج نفسيّ نحصل عليه في غرفة مغلقة وهادئة وبعيدة عقب ضرر نفسيّ نمر به. بينما يأتي افتراض هذه المبادرة متسقاً مع ما طرحه فرانز فانون عن عامل المجابهة المشتركة للمصدر الأساس للقهر - وهو الاستعمار - وكيف أن هذه المجابهة المشتركة وإعادة اختبار «الأنا» الفرديّة لكونها جزء من امتداد وارتصاصّ، وهو مُركّب قد يكون كفيلاً في رأب الشروخ الداخلية التي يسببها القهر الممتد ومحاولات الفردنة.
فقد لمسنا في الأيام الأولى للمواجهات وقبيل اشتداد الهبّة، صدفةً، أهمية تواجدنا بجانب أهالي المعتقلين أمام محطّات الشرطة ومراكز التوقيف. تحديداً في مساندة المعتقلين الذين تم توقيفهم بعيداً من مناطق سكناهم الأصلية.
ولمسنا أن لهذا التواجد إسهامات في تفاعل الأهل مع تجربة أولادهم وفهم دورهم فيها. بحسب فانون، فإنّ الإسهامات النفسية لهذه المجابهة المشتركة تمتدّ إلى تحصين وبنيان نفسيّ أكثر تماسكاً عند المقهورين ولا تقتصر على الفائدة المبتغاة من نيل الحقوق فحسب. فإن الاستعمار كان قد فكّك من خلال قمعه شخصَ المستعمَر وجعل هذا التفكيكَ واضحاً على مستوى «البنيانات الاجتماعية».
فبخلاف وضعية التفاعل مع الاستعمار على شكل أفراد يستمدون أساسهم من وجوده لا غير، فإن الاتحاد بالفعل المشترك في وجهه يُعيدهم كنفسٍ متماسكة ذات رواية واضحة.
نحن كمجموعة متطوعين/ات في الميدان لم نقدّم علاجاً نفسياً، بل نقدم إسناداً نفسياً -مجتمعياً (أي إسناداً ذا بُعد وأثر نفسيّين مصدره المجتمع)، بعيونٍ وآذان علاجية، تُساند وتتواجد بالقرب من أولاد شعبنا مع إدراكٍ للاحتياجات العاطفية للموجودين أمامنا، وتقيّم الوضع: فإن وجدت حاجة لاستكمال الإسناد، نستمر به. أمّا إن وجدنا أن وضعاً جدياً يستدعي تقديم علاجٍ، فنقوم بعد إذن الأهل أو الشخص المعنيّ (إن كان بالغاً) بتحويل الحالة إلى معالجات أو طبيبات نفسيات متطوعات. حيث أننا كمُعالِجين/ات اخترنا أن نحمل الهوية العلاجيّة في تدخّلات كهذه كقدرة على الإصغاء، لكننا في هذا الوضع لا نتعامل مع حالات مرضيّة Pathologies، بل مع أشخاص قد مرّوا بظرف صعب نتيجة تعبير أو مشاركة سياسيّة تحرّريّة، وهي أمور صحيّة جداً. لكننا نرافقهم حتّى لا يتم تشويه إدراكهم لهذه التجربة.

أنواع الخدمة التي نقدمها هي:
1) تواجد وإسناد مجتمعي من المتوقّع أن تقوم بمحصّلتها بإحداث أثر التشافي النفسي من الحدث الصادم ومن محاولة كسر الرواية الجمعية في رواية الفرد.
2) إسعاف نفسي أوّلي عام، ووقت الحاجة في الحالات العينيّة (فقدان وعي، نوبات هلع،...) والتي قُدّمت غالباً للأهل على باب محطات التوقيف وأمام المحاكم وتحديداً لدى الصعوبة في تلقي الحكم المقرر لابنهم.
3) زيارات بيتيّة ومحادثات نفسية-معرفية عن الوالدية وأثر الاعتقال عليها في حالة الحبس المنزلي، كما وعن الاحتياجات النفسيّة للطفل أو للمعتقل تبعاً للتجربة التي قد مرّ ويمر بها.

قد تمثّل هذه المبادرة بصيغتها التطوعيّة وبقدر العطاء الذي قدّمته المتطوعات باختلاف أماكن تواجدهن وخبراتهن، نموذجاً واضحاً لمركب الحس النفسي المجتمعيّ كمسؤولية، لكننا نرتأي أن نختم بقصة قصيرة حدثت مع طفلٍ من معتقلي النقب خلال أيار الماضي، وهو من الفئة التي لم تعرف قصة نضالات الأسيرات السابقات. عاش الطفل مع رفاقه ظروفاً قاسية في السجن، بخاصة وأنّ أحوال عائلاتهم المادية متدنية. فكان الأطفال يتقاسمون لوازمهم وزادهم طيلة أيام الاعتقال. وحين زارت المجموعة هذا الطفل في منزله، لم يقم الطفل بشكر أفرادها على قدومهم تعبيراً عن رضاه، بل طلب من المجموعة زيارة الأطفال الذين سجنوا معه. ليُشاركهم الرضى الذي شعر به، هذا الذي لم يُعلّمه أحد عن الحس النفسي المجتمعي.