بصورة مفاجئة، زار نائب وزير الدفاع السعودي، شقيق وليّ العهد خالد بن سلمان، البيت الأبيض، «إنفاذاً لتوجيهات وليّ العهد»، محمد بن سلمان، على حدّ تعبير وكالة الأنباء السعودية، في ما بدا مؤشّراً إلى بداية تخفيف التوتّر بين الجانبين، تعزّز بما نقلته محطّة «سي أن أن» عن أكثر من مسؤول أميركي من أن ابن سلمان والرئيس جو بايدن يمكن أن يلتقيا للمرّة الأولى قريباً، وربّما الشهر المقبل. ويمثّل ذلك تحوّلاً أساسياً في مسار العلاقة بين الرجلين، والتي كانت قاربت نقطة اللاعودة، ووصلت بالأمير السعودي حدّ رفض كلّ مناشدات بايدن لزيادة إنتاج النفط، بل حتى رفض تلقّي اتصال هاتفي منه، ثم الاستهزاء بمعوثه مستشار الأمن القومي، جاك سوليفان، من خلال استقباله بـ«الشورت» في قصره في الرياض قبل أسابيع، ثمّ الصراخ في وجهه حين جاء على ذكر الصحافي القتيل جمال خاشقجي. يحصل ذلك في ظلّ زحمة أفكار تتداولها منذ مدّة وسائل إعلام أميركية، وخاصة الديموقراطية التوجّه منها، حول الشروط التي قد تتضمّنها تسوية ما للخلاف العميق بين الولايات المتحدة والسعودية، وبعضها يَرِد على شكل «نصائح» لبايدن بإبطاء عملية إعادة العلاقات مع المملكة إلى طبيعتها، واستخدام ما تملكه واشنطن من أوراق لتحقيق أقصى ما يمكن من المصالح الأميركية. غير أن ثمّة تسليماً لدى وسائل الإعلام تلك، بأن الوقت قد حان للانتقال بالعلاقات إلى مرحلة ما بعد اغتيال خاشقجي، ما يوحي بأن بايدن قد يكون مستعدّاً للمساومة على دم الرجل، على طريقة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، على رغم حساسية الملفّ في داخل أميركا، ولا سيّما بعد التبعات القانونية التي رتّبها، ومن ضمنها حظر سفر عدد كبير من المسؤولين السعوديين الذين اعتُبروا متورّطين في الجريمة.
بالنسبة لابن سلمان، يندرج الأمر في سياق أوسع من تأمين التأييد الكافي للنظام، والذي يمكّنه من تنفيذ عملية انتقال سلسة للحكم، مشابهة لتلك التي حصلت في الإمارات قبل أيام بعد وفاة خليفة بن زايد، واختيار محمد بن زايد خلَفاً له في ظلّ مبايعة دولية تمثّلت بتوافد الكثير من القادة في الإقليم والعالم إلى أبو ظبي، ولا سيّما نائبة الرئيس الأميركي، كمالا هاريس. أكثر من ذلك، يعمل وليّ العهد السعودي، منذ مدّة، على هدْي السياسة التي سبقه إليها ابن زايد بمحاولة الخروج من التوتّرات التي كان قد زجّ بلاده فيها، عبر الانفتاح على تركيا وإيران، وفي المقابل التطبيع المبالَغ فيه مع إسرائيل، وخصوصاً بإدخالها إلى الخليج كبديل للأميركيين الذين يخفّضون تواجدهم في هذه المنطقة، مع تراجع مصالحهم فيها.
ثمّة نصائح «ديموقراطية» لبايدن بإبطاء عملية إعادة العلاقات مع المملكة إلى طبيعتها


وعلى الرغم من أنّ الانعطافات الحادّة قد تكون أصعب على ابن سلمان، لأن درجة تحكّمه بالدولة لا ترقى إلى تلك التي يتمتّع بها رئيس الإمارات، نظراً للتحدّيات الداخلية التي يواجهها من داخل الأسرة الحاكمة وخارجها، والتحدّيات الخارجية المتمثّلة في العلاقة الرديئة مع واشنطن، وحرب اليمن، إلّا أن التحرّكات السعودية الأخيرة تصبّ في هذا الاتجاه، ولا سيّما التوصّل إلى تفاهمات في المحادثات مع إيران في بغداد، بما يكفي لإجازة اجتماع بين وزيرَي خارجية البلدين في العاصمة العراقية قريباً، على حدّ ما نقلت «وكالة أنباء فارس» عن قيادي برلماني إيراني. لكن الرهان الأساس لابن سلمان، مِثل ابن زايد، يبقى إسرائيل، التي وصفها في مقابلته الأخيرة، بأنها «حليف محتمل»، ليبقى السؤال يدور حول ما إذا كان سيتمكّن من السير في عملية تطبيع معلَنة، أم أنه سيكتفي بمزيد من تطوير العلاقات في السرّ. وفي كلّ الأحوال، تقوم إسرائيل بوساطة بين ابن سلمان وبايدن، وقد تدخّلت أكثر من مرّة لتخفيف الضغط الأميركي عليه، ومن الطبيعي أن أيّ مقاربة أمنية جديدة للولايات المتحدة في الخليج، سوف تشمل انخراطاً إسرائيلياً أكبر في العملية، مقابل التزامات أميركية أقلّ.
ومع كلّ فشل أميركي في الضغط على روسيا اقتصادياً لحشرها في أوكرانيا، تزداد احتمالات اضطرار بايدن للتصالح مع ابن سلمان بشروط أفضل للأخير، خاصة أن فكرة حظر النفط الروسي أوروبياً صارت مستبعدة، مع تصاعد الضغط على الاقتصادات الغربية التي يكاد ارتفاع أسعار النفط يخنقها. وبالطبع، فإنّ ما عرضته كمالا هاريس على ابن زايد خلال زيارتها الإمارات ينطبق على ابن سلمان، أقلّه في ما يتعلّق بمقايضة رفع إنتاج النفط بتحقيق مطالب أمنية خليجية. وكذلك، في الوقت الذي تتعثّر فيه المفاوضات النووية مع إيران، تجد واشنطن سبباً آخر لتبرير إعادة السعودية إلى الحظيرة الأميركية بهدف الضغط على طهران.
نقطة التحوّل في هذا المسار، كانت زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، إلى الرياض واجتماعه بابن سلمان، في دور ديبلوماسي غير معهود لرأس «السي آي إيه»، الوكالة التي تنتمي إلى الدولة الأميركية العميقة التي تكره وليّ العهد، وتفضّل عليه ابن عمّه المعزول محمد بن نايف، الصديق القديم لمجتمع الاستخبارات في الولايات المتحدة. ونقل موقع «إنترسبت» عن مصادر في الاستخبارات قولها إن بيرنز ضغط على ابن سلمان في موضوع زيادة إنتاج النفط وملفّ المعتقلين في السعودية، ولا سيّما أبناء الأسرة، والعلاقات مع الصين وروسيا. وبالنسبة لبايدن، يُعتبر التوصّل إلى اتفاق مع السعودية، بحلول موعد زيارته لإسرائيل، مهمّاً، لأنه يحتاج إلى أن يخلّف مثل هذا الاتفاق مفاعيله على أسواق النفط قبل الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي في تشرين الثاني المقبل.
على أنه من غير المرجّح، بحسب الأطروحات الأميركية المتداولة، أن يؤدي أيّ اتفاق سعودي - أميركي إلى عودة واشنطن عن القرار الاستراتيجي بتخفيف التواجد في الشرق الأوسط، وبالتالي فإن أيّاً من الطرفين لن يتراجع تماماً عن تنويع رهاناته. بالنسبة للسعودية، قد تقبل بالتخلّي عن ما يزعج الأميركيين في علاقتها مع الصين، مثل التلويح بشراء صواريخ باليستية ضمن برنامج سرّي أُطلق عليه اسم «التمساح»، أو التعامل باليوان في تجارة النفط، لكن الرياض ستُواصل تحسين علاقتها ببكين، وكذلك بموسكو، وإن كان سيتوجّب عليها بلا شكّ رفع مستوى إنتاج النفط، والذي يعني عملياً فكّ التحالف غير المعلَن مع موسكو في إطار «أوبك بلس».