تسعى إسرائيل إلى أن تكون زيارة وزير أمنها، بني غانتس، إلى واشنطن، مثمرة في كلّ ما يتعلّق بمواجهة إيران وحلفائها. وعلى هذه الخلفية، يمكن تفسير جزء واسع من مقدّمات الزيارة، والتي حرصت الدولة العبرية على تظهيرها علناً، سواءً في ما يتعلّق بالمواقف أو الأفعال، أو الإيحاء بالنيّات العدائية، ومن جملة ذلك مناورة «مركبات النار» التي تترافق مع سيناريوات وفرضيات تقحَم الولايات المتحدة في قلْبها، وإن عبْر دور لوجستي في مساعدة سلاح الجوّ الإسرائيلي على توجيه ضربات مفترضة إلى إيران. ويترافق هذا مع حديث المسؤولين الإسرائيليين، السياسيين والعسكريين، عن تطوّر نوعي في «خرق» إيران التزاماتها النووية، عبر تكرار ما ردّده غانتس نفسه من أن «إيران تستكمل تركيب 1000 جهاز طرد مركزي في مواقع نووية جديدة تحت الأرض يجري بناؤها بالقرب من منشأة نطنز النووية»، وأنها «على مسافة أسابيع معدودة من مراكمة مادة انشطارية تكفي لقنبلة نووية أولى». وفي الوقت نفسه، أُشبع الإعلام العبري بتقارير - لا تخلو من التهويل - عن الجاهزية العسكرية للمبادرة باتّجاه إيران، ومن هذا ما ورد في صحيفة «إسرائيل اليوم» التي قالت: «من طهران إلى جنين، الجيش الإسرائيلي يستعدّ لقتال في كلّ الساحات. الدول الكبرى في طريقٍ مسدود (أمام إيران)، لكنّهم في الجيش الإسرائيلي ينفّذون مناورة مركبات النار التي تحاكي هجوماً واسع النطاق في إيران، بالتوازي مع استعدادات لتدهور الوضع في المدن المختلطة وفي الضفة الغربية». باختصار، تقول إسرائيل إن التهديد الإيراني لم يَعُد محتملاً، وإنها تستعدّ بنفسها لصدّه. لكن ما حقيقة الحديث الإسرائيلي؟ وما الذي قد يجعله جدّياً هذه المرّة؟ وهل تل أبيب فعلاً في وارد التحرّك العملياتي؟أولاً: تعبّر إسرائيل عن حقيقة التهديد المتنامي ضدّ أمنها ووجودها وقدرتها على فرض إرادتها في الإقليم، سواءً في ما يتعلّق بالتهديد النووي الإيراني الذي يُعدّ وجودياً، أو التهديد التقليدي للجمهورية الإسلامية وحلفائها في المنطقة. وهو تعبير يعطي صورةً عن الواقع كما هو، سواءً أرادت أن تستخدمه لتبيان ماهيّته وشدّة خطورته، أو أن توظّفه لأهداف ترتبط بمعالجته، عبر التحريض أو ابتزاز الحلفاء.
ثانياً: في الموازاة، تعاني إسرائيل من قصور يد في مواجهة التهديد الإيراني، وإن كانت قادرة على اقتناص فرصة هنا أو هناك لتوجيه ضربة ضدّ إيران، من شأنها إزعاج مسار تعاظم قدراتها، أو عرقلته بشكل أو بآخر.
الإدارة الأميركية الحالية معنية، والآن أكثر ربطاً بالحرب الأوكرانية، أن تجد حلولاً تسووية للملف النووي الإيراني


ثالثاً: مقابل قصور اليد الإسرائيلي، ثمّة مراوحة لدى الجهة التي يفترض بها، والقادرة مادياً، على فعل ما تعجز عنه إسرائيل، أي الولايات المتحدة. إذ إن الإدارة الأميركية الحالية معنيّة، والآن أكثر - ربطاً بالحرب الأوكرانية -، أن تجد حلولاً تسووية للملفّ النووي الإيراني، من دون اللجوء إلى تصعيد أمني أو عسكري ضدّ طهران. في المقابل، لا تمانع إسرائيل أن تصل المفاوضات الإيرانية - الأميركية إلى اتفاق، لكنها تريد من أيّ تسوية، أن تؤدّي إلى النتيجة نفسها التي يمكن أن تؤول إليها الحرب. ويتمحور القلق الإسرائيلي حول كيفيّة دفع إيران إلى التنازل، في حال لم تُطرح في وجهها خيارات بديلة متطرّفة يمكن اللجوء إليها في حال تعثُّر المفاوضات. وليس التهديد بالعمل العسكري، في حال امتناع طهران عن التنازل، خافياً على المفاوض الأميركي. لكن الخلاف بين الجانبين مرتبط باليوم الذي يلي هذا التهديد؛ إذ ماذا لو لم تخضع إيران، وواصلت مساعيها النووية؟ في هذه الحالة، يصبح لدى واشنطن محدَّدان اثنان: يتمثّل الأوّل في أنها تدرك أن طهران لن تستسلم إن جرى تهديدها بخيار عسكري أميركي، بل ستزيد من خرقها للاتفاق السابق إلى الحدّ الذي يقرّبها أكثر من القدرة النووية العسكرية؛ أمّا الثاني، فهو أن واشنطن لا تريد أن تجد نفسها أمام خيار هدَّدت بالركون إليه، وهي تدرك مسبقاً أنها غير معنيّة به، فيما تل أبيب غير قادرة عليه. في الوقت نفسه، تتعثّر المفاوضات وتتشبّث إيران بمطالبها، فيما تنشغل الولايات المتحدة بالملفّ الأوكراني، الأمر الذي يزيد ابتعادها عن أولويات لا تقاس فقط على المصالح الإسرائيلية الخالصة، ما يعني مراوحة في المفاوضات بلا أيّ تقدُّم.
إزاء ما تقدَّم، فإن أولوية إسرائيل في هذه المرحلة، هي السعي إلى إعادة واشنطن للاهتمام بالقضيّة الإيرانية، ليس في ما يتعلّق بمسيرة تنامي القدرة النووية فحسب، بل ربطاً بجملة قضايا ذات صلة بالاهتمام الأميركي، ومنها ما ورد على لسان غانتس نفسه، قبل مغادرته إسرائيل إلى الولايات المتحدة، وعنوانه الاستعلام عما تنوي واشنطن فعله في ظلّ جمود التفاوض مع الجانب الإيراني؟ وماذا عن موقف الحلفاء العرب الجدد والقدامى الذين يُفترض أنهم يصطفّون إلى جانب إسرائيل في مواجهة إيران؟ وماذا عن تراجع هؤلاء عن «التوثّب» ضدّ الجمهورية الإسلامية؟ وماذا عن الوجود الإيراني في الإقليم، وحلفاء طهران الذين تتنامى قدراتهم يوماً بعد آخر؟ قبل انطلاق الحرب في أوكرانيا، وفي موازاة عملية التفاوض غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، حملت المؤسّستان العسكرية والأمنية في تل أبيب نفسيهما إلى واشنطن لطلب تشديد موقفها من طهران على طاولة التفاوض، وخارجها. في حينه، أدار الأميركيون ظهرهم للمطالب العبرية، وعاد الضباط الإسرائيليون خائبين. هل اختلفت المرحلة الحالية عمَّا سبقها؟ الإجابات غير قطعية، وإن كان الاهتمام الأميركي بعيداً، حتى الآن، عمَّا تدفع تل أبيب في اتجاهه.