رحل، أوّل من أمس، في العاصمة السويسرية جنيف، الكاتب والصحافي والمفكّر الفلسطيني الكبير، فيصل حوراني، عن عمر ناهز 83 سنة (1939-2022)، سخّرها في خدمة القضية الفلسطينية، مقاتلاً بالسلاح في شبابه، ثمّ صحافياً وباحثاً مثابراً في منتصف العمر، ثمّ كاتباً روائياً ومؤرّخاً وناقداً للتجربة النضالية الفلسطينية حتى وفاته. أثرى ابن بلدة المسمية، القريبة من غزة، المكتبة الفلسطينية والعربية بعدد هائل من الإصدارات الثقافية والنتاجات الأدبية، التي طُبعت في عدد من العواصم العربية والأوروبية، وقد فاقم رحيله مشاعر الحزن في الأسرة الثقافية الفلسطينية التي شيّعت في صبيحة فقدانه الشهيدة الصحافية شيرين أبو عاقلة. ومن المقرَّر أن تجري مراسم نقل جثمانه إلى رام الله في قادم الأيام، لتُقام له هناك مراسم جنازة رسمية.هو فيصل حوراني، المولود في بلدة المسمية التي هُجّر أهلها عام 1948. عايش النكبة في السنة التاسعة من عمره، ثمّ نزح مع أسرته إلى سوريا، التي نشأ فيها وتعلّم، ومنها انطلق في رحلة نضالية زاخرة بالأحداث والتفاصيل. إليه تعود الموسوعة التاريخية الأكثر زخماً في المكتبة الفلسطينية، والموسومة بـ«دروب المنفى»، والتي تقع في خمسة مجلّدات طوال حمل كّل واحدٍ منها عنواناً فرعياً: «الوطن في الذاكرة 1994»، «الصعود إلى الصفر 1996»، «زمن الأسئلة 1998»، «الجري إلى الهزيمة 2001»، ثمّ الإصدار الأخير «دروب المنفى 2003». تفرّغ للكتابة في الهزيع الأخير من حياته، بعد أن تركت الحروب توقيعها في أجزاء كثيرة من جسده، إلى أن تركته في حالة صحّية يصفها في «دروب المنفى» بقوله: «فقدت الإبصار بواحدة من عينيّ أثناء الحرب التي أبعدتني عن مسقط رأسي، وفقدت السمع بواحدة من أذنيّ في حرب أخرى من الحروب التي لحقتني في المنفى، فصرتُ لا أرى محدّثي إن جلس على يساري ولا أسمعه إن جلس على يميني. احتلّ داء لا شفاء له ظهري، واحتلّ داء آخر لا شفاء له صدري».
في صباه، كان قد شارك في تأسيس «رابطة الطلاب الفلسطينيين»، ثمّ أصبح رئيسها في عام 1964، ثمّ ترأس قسم الدراسات الفلسطينية في مركز الأبحاث التابع لـ«منظّمة التحرير الفلسطينية» وهو أحد «أعضاء المجلس الوطني».
عاش حوراني حياةً حافلة بالتفاصيل والصراعات الفكرية والأحداث التي أنتجت تراكماتها تجربة حياتية يصفها الكاتب المصري عمر عبد العزيز بقوله: «إنها لو وردت في فليم أو عمل درامي، لبدا مخرج العمل سخيفاً لفرْط ما فيها من مبالغة خيالية». ولعلّ شخصية حوراني المتميّزة هي العامل الأبرز في إنتاج تلك الحياة. حجز الرجل، بكلّ ما امتلكه من فكر وثقافة وإخلاص وطني، مقعداً متقدّماً في حياة قائمة طويلة من القادة والزعماء الذين شكّلت أسماؤهم الجزء الأكبر من التاريخ النضالي الفلسطيني والعربي المعاصر، من أمثال ياسر عرفات، صلاح خلف، خليل الوزير، أحمد جبريل وفاروق القدومي، والقادة السياسيين العرب، مثل صلاح جديد، خالد بكداش، وعبد الحليم خدام، الذين كان يكثر من الدخول إلى مجالسهم الخاصة، في أكثر اللحظات تأزّماً وتوتّراً.
رحل صاحب «بير الشوم» في أيام بدت وكأنها «عِشرية الحزن الفلسطينية»


غير أن شخصيته نفسها، بكلّ ما فيها من أنفة وقدرة لافتة على التعاطي بندّية متهكّمة أحياناً مع أكبر الزعامات، أسهمت في ولوجه درباً وعراً من الأزمات السياسية، التي دفع ضريبتها غالياً. ولعلّ خلافه مع الرئيس الراحل، ياسر عرفات، هو واحدة من تلك المحطّات التي يرويها في كتابه «الحنين... حكاية عودة» بعذوبة منقطعة النظير. فقبل أن يحكي عن تفاصيل لقائه بأمه التي غاب عنها قسرياً لـ46 عاماً، قدّم موقفه من «اتفاقية أوسلو» ووهم السلام المشتهى مع المحتلّ، وقد أدّت معارضته الاتفاق الذي ولدت منه السلطة عام 1994، إلى قطع راتبه الشهري لشهور طويلة، كما لم يَسمح الراحل عرفات بإنجاز إجراءات عودته أسوة بكلّ الذين عبروا معه رحلات المنافي، والذين تمكّنوا بفضل «أوسلو» من العودة إلى قطاع غزة والضفة الغربية، قبل أن يتدخّل أحد أصدقائه وأصدقاء «أبو عمار» المقرّبين، في إنجاز المصالحة التي عاد بموجبها إلى غزة، تلك العودة التي كانت ملحمة درامية بذاتها.
لحوراني أسلوب كتابي متقن ومتين، يوظّف فيه اللغة البسيطة والمكثّفة في آن، في تقديم المواقف والأحداث والصراعات الواقعية في سياق هادئ آسر للقارئ، يمكن أن يصبح في لحظة واحدة درامياً ومتوتّراً وشديد التأثير. هو من الكتّاب القلّة الذين استطاعوا ببراعةٍ المزاوجة بين حياتهم الشخصية والعامة في أطروحاتهم وآرائهم السياسية، ويتبدّى ذلك في كتابه «دروب المنفى» - نال «جائزة فلسطين للسيرة» عام 2003 -، الذي يبوح فيه بما يتجاوز هامش الـ2300 صفحة، بما لم تخنه فيه ذاكرته المتحفّزة من أحداث تاريخية كان فيها حاضراً. باختصار، هو كاتب يمتلك ذاكرة فريدة، كتب رواياته وإصداراته بالطريقة التي يروي بها مشافهة لجلسائه. كما أنه من القلّة الذين يتقنون «الاستغابة» ذات المستوى الراقي، و«لي في هذا رأي طالما سمعه أصحابي منّي، وهو أن الاستغابة وظيفة ممتعة من وظائف الجسد»، كما يقول.
احتفظ حوراني بتمايزه، بالضبط كما كان ينصح قارئه، ليس في أفكاره التي انحاز فيها إلى ما سُمّيت «الواقعية السياسية» التي نظّر لها في رواية «المحاصَرون» بعبارته الأثيرة التي يحذّر فيها الثائر من الغفلة، لا عن مراقبة العدو وتذخير السلاح فحسب؛ فـ«الإفراط في الحماس غفلة، كما هو الإفراط في اليأس»، بحسبه. ومع أن مواقفه السياسية تلك، ضاعفت من منتقديه في صفوف الرعيل الأول للثورة، غير أنه ظلّ مدافعاً عن فكرة «تجليس» الفعل المقاوم، من إطاره «المطلق»، إلى الحيّز الذي يمكن فيه ترجمة هذا الفعل إلى «تغيير سريع» للواقع. ومهما يكن، فقد احتفظ ابن المنافي باحترامه حتى في صفوف الجذريّين، الذين اختلفوا معه، وأحبّوا فيه استعداده غير المحدود للتضحية.
تمايز حوراني يَظهر أيضاً في قدرته على الغوص في أعماق الهواجس النفسية التي تساور حتى منَ يحملون أرواحهم على أكفهم، وهو ما ظهر في تعريفه الدقيق للخوف الذي ينتاب الإنسان المقاوم، حيث يقول: «الخوف ليس هو الجبن، ومَن الذي لا يخاف؟ الجبان قد يهرب حتى حين لا يوجد ما يخيف، أمّا غير الجبان، فخوفه ممّا يخيف يحفّزه للاستبسال في مواجهته». لكن التمايز/ التميّز هنا، امتدّ كذلك إلى نسق الحياة... الحياة البسيطة التي تحيط بها عزّة النفس، فهو يترفّع عن الحصول على منحة علاجية، لأن غيره من البسطاء أوْلى بتكاليفها، تماماً كما يترفّع عن تقلُّد المناصب العليا في السلطة التي عرضت عليه.
رحل صاحب «بير الشوم» في أيام بدت وكأنها «عِشرية الحزن الفلسطينية»، وسيعود من المنفى بعد أن خبر دروبه كلّها، لكن هذه المرّة، بلا رحيل آخر.