تبدو المعركة على القدس والمسجد الأقصى، كما المعركة على ما سترسو عليه المعادلات وقواعد الاشتباك بين الفلسطينيين والاحتلال، مرتبطة بنتائجها، التي ما زالت إلى الآن في مرحلة الكباش، وإن كان جزء منها بدأ يتبلور فعلاً. وإذا كانت إسرائيل ترفض التخلّي عن أيّ من أطماعها في القدس، إلّا أنها تَظهر اليوم على مفترق طرق ما بين التسليم من جهة، ومواصلة الإنكار، من جهة ثانية، لحقيقة باتت تتلمّسها، عنوانها محدودية تأثيرات القوّة في بلورة الواقع وفرض الإرادات، على رغم أن «عيّنة» السلطة الفلسطينية تُغري المحتلّ بمواصلة التمسّك باعتقاده أن القوّة تساوي القدرة على سلْب الحقوق، فضلاً عمّا تمثّله التغطية الدولية والإقليمية له، في ظلّ توسُّع دائرة الحلفاء، من إغراء مماثل، يتجاهل المعطى الأهمّ في الواقع الفلسطيني، والمتمثّل في ما يملكه الطرف الآخر من قدرة على التأثير. وبالتدقيق في الواقع الحالي، يتبيّن الآتي:
أوّلاً: أظهرت الأحداث الأخيرة إرادة إسرائيلية لقضم تدريجي للحرم القدسي، بما لا يؤول إلى التقسيم الزماني والمكاني فحسب، بل إلى السيطرة المطلقة عليه، تمهيداً لفرض واقع يزيد عمّا فعله الاحتلال في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
في المقابل، بيّنت الوقائع نفسها أن هذه الإرادة ليست سهلة المنال، إذا ما أراد الفلسطينيون التصدّي لها، بل وأيضاً منعها.
ثانياً: لا يعني ما تَقدّم أن إسرائيل ستُلغي أو حتى تُجمّد مخطّطاتها تلك، بل إن المعركة لا تزال قائمة، وإن سَجّل الفلسطينيون انتصاراً آنياً فيها بالنقاط. إلّا أن هذا الانتصار غير نهائي، وقابلٌ للانقلاب، في حال التراخي أمام تل أبيب.
ثالثاً: هل فاجأ الفلسطينيون الاحتلال؟ نعم كبيرة جدّاً؛ إذ لم يقتصر التحرّك الفلسطيني على التصدّي للمستوطنين في المسجد الأقصى، بل شمل ساحات المواجهة كافة، في صورة عمليات في الداخل المحتلّ وأخرى مترافقة مع شبه انتفاضة شعبية في الضفة، الأمر الذي أربك العدو، خصوصاً في ظلّ تراجع سطوة السلطة الفلسطينية، واضطرار إسرائيل للقبول بتحييد قطاع غزة عن المواجهة المباشرة، مع تلويح فصائل المقاومة بأن هذا التحييد غير نهائي.
رابعاً: لم تَعُد إسرائيل أمام خيارَين اثنَين: العودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل الأحداث الأخيرة في الحرم، أو الاستمرار في العمل على قضم الحقوق الفلسطينية، بل باتت مُخيَّرة بين ثلاثة: مواصلة المعاندة، أو الرجوع إلى واقع ما بعد عام 2000، أو إلى ما قبله، أي منْع زيارات المستوطنين بالمطلَق. والظاهر أن تل أبيب لا تزال تنكر حقيقة كون الخيار الأخير بات حاضراً أمامها، على رغم ما تلْمسه من أن محاولة فرض إرادتها لم تَعُد متاحة، أو في الحدّ الأدنى ستُكبّدها أثماناً.
خامساً: يدرك صاحب القرار في تل أبيب أنه بات في موقع حرج جدّاً، سواءً سياسياً أمام جمهوره الذي يخشى أن يفقد مكانته إزاءه نتيجة صورته المتراخية والمتراجعة تجاه الفلسطينيين، أو عسكرياً ربطاً بتراجع قدرة الردع أيضاً، وما يستدعيه من تأثيرات سلبية لدى المستوطنين أنفسهم، ولدى الفلسطينيين ومَن وراءهم أيضاً. إزاء ما تَقدّم، يمكن للعدوّ أن يلجأ إلى ما يقوم به عادةً من توجيه الجهود الأمنية والعسكرية نحو مركز الثقل لدى الفلسطينيين، عبر استهداف شخصية أو جهة أو خلق حالة اقتصادية أو حتى الإقدام على عملية عسكرية، تصدم الفلسطينيين وتدفعهم إلى التراجع، إلّا أن هذا الخيار غير متاح حالياً، ليس لأن إسرائيل فقدت القدرة عليه، بل لأن معادلة الجدوى والتكلفة باتت غير مؤاتية، في ظلّ قدرة الطرف الفلسطيني، هو الآخر، على تدفيع الثمن.
سادساً: على خلفية كلّ ما ذُكر آنفاً، يمكن تفسير أيّ تصريح أو موقف للعدو، بما يشمل أيضاً الكلام الأخير لرئيس حكومته، نفتالي بينت، الذي جدّد الإصرار على السيطرة على الحرم القدسي، مهما كانت الضغوط عليه خارجياً وداخلياً، فضلاً عن التهديدات بقتل قادة من الفصائل الفلسطينية في الداخل والخارج، والحديث عن تشديد الضغط الاقتصادي عبر إغلاق المعابر أمام الفلسطينيين، والتهويل بالمناورات التي تحاكي حروباً في هذا الاتجاه أو ذاك، مع التركيز على المناورة البرّية، التي باتت واحداً من أهمّ عوامل تراجع «مكانة» إسرائيل لدى أعدائها. وعلى رغم أن تلك المواقف قد تندرج ضمن اللعبة السياسية في إسرائيل، إلّا أن امتهان الكيان، منذ تأسيسه، الغدر، يوجب الحذر، إذ قد يكون الحديث العلني في اتّجاه التقليل من جدوى هذا العمل أو ذاك، في الوقت الذي تكون فيه الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية عاكفة على التحضير لذلك العمل. وفي السياق نفسه، لا يعني أيّ تراجع آنيّ إسرائيلي عن خطّة استلاب الحرم القدسي، انطواء هذه الخطّة، بل خسارة العدو جولة من الحرب، التي ستظلّ القدس فيها على المهداف الإسرائيلي.
على المقلب الفلسطيني، ثبت أن المقاومة قادرة على أن تفرض على الاحتلال الحدّ من أطماعه، في الحدّ الأدنى. كما ثبتت حكمة المقاومة في استخدام القوّة من دون تبديدها أو الانزلاق إليها بما يضرّ بها وبتأثيراتها. كذلك، لم تَعُد المواجهات العسكرية مصدر قلق فلسطيني فحسب، بل باتت عنصر إقلاق للعدو أيضاً، وهو ما يجب أن يُبنى عليه لتحصيل الحقوق وتجميد الأطماع. على رغم ما تَقدّم، يظلّ من المبكر الحديث عن نتائج نهائية في المديات المنظورة والمتوسّطة؛ فكلّ ما يمكن للفلسطينيين كسبه من نقاط، أو ما يمكن للمحتل أن يستحصل عليه، يبقى آيلاً للسقوط والتغيير وفقاً لمسار الحرب الكبرى نفسها، ما يفرض على الجانب الفلسطيني اليقظة الدائمة والحكمة في اتّخاذ المواقف والأفعال، وفي الوقت نفسه الوعي بأن أطماع إسرائيل لا تنتهي، طالما أن الكيان موجود، كونها جزءاً لا يتجزّأ من ماهيّته.