يبدو أن الانسداد السياسي في العراق بدأ يتحلحل، في ظلّ تفكُّك التحالف الثلاثي الذي كان يرفع شعار حكومة الغالبية الإقصائية، بعد أن اتّضح لأطرافه، «التيار الصدري» و«تحالف السيادة» و«الحزب الديموقراطي الكردستاني»، استحالة تحقيق هذا الهدف، لا فقط بسبب عدم حصولهم على نصاب برلماني يمكّنهم من فرضه، وإنما أيضاً بسبب العوامل الإقليمية، وتحديداً العلاقة المتعدّدة الأوجه بين العراق وإيران. وتفيد مصادر عراقية بأن الأطراف اقتربت، خلال سلسلة من المحادثات التي جرت من دون الإعلان عنها، من التوصّل إلى مرشّح توافقي لرئاسة الحكومة، هو غير رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي، الذي كانت قد ارتفعت حظوظه في الآونة الأخيرة، بعد فشل «الثُّلاثي» في انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة غالبية، على رغم أن الكاظمي لا يواجه معارضة إيرانية لتولّيه المنصب أربع سنوات جديدة. والظاهر أن طهران لم تَعُد تهتمّ بالأسماء، بعدما سلّم الجميع بعدم إمكانية أخذ العراق إلى خيارات تضرّ بمصالحها، فيما أظهر الكاظمي حرصاً على أخذ المصالح الأمنية وغير الأمنية لإيران في الاعتبار، وفَهِم قبل غيره موازين القوى التي لا تسمح بتحجيم النفوذ الإيراني في العراق.وأبدى رئيس «تحالف السيادة»، رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، خلال زيارته الأخيرة لطهران، تأييده التوصّل إلى توافق بين القوى «الشيعية» على مرشّح لرئاسة الوزراء، ولا سيما أنه صار يشعر بقلق بعد عودة علي حاتم السليمان إلى بغداد، وخروج رافع العيساوي من السجن، وهما من كبار ممثّلي «السُّنّة» الذين كانوا قد واجهوا مشاكل، منها اتّهامات بالإرهاب والفساد، خلال مرحلة التوتّرات التي سبقت احتلال تنظيم «داعش» أجزاء من سوريا والعراق، وإعلان «دولة الخلافة». ويسعى الحلبوسي، كذلك، إلى تهدئة التوتّر الذي نجم عن انحيازه إلى خيار حكومة الغالبية، وخاصة مع «الحشد الشعبي» في المناطق المشتركة التي يتواجد فيها أنصار «حزب تقدّم» الذي يتزعّمه، وقوات «الحشد». أمّا في ما يتعلّق بزعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، فتقول المصادر إن خياراته صارت صعبة؛ فإذا ذهب إلى المعارضة وحيداً، سيفقد جزءاً من تأثيره، باعتبار أنه يحتاج إلى التواجد في الوزارات والإدارات في توسيع انتشار تيّاره، وهو ما فعله طوال السنوات الماضية، بينما إذا شارك في حكومة توافقية سيبدو كَمَن يتخلّى عن الشعارات التي رفعها لرفض الذهاب إلى حكومة كهذه، أي تحقيق الإصلاح. ومشكلة مقتدى، وفق المصادر نفسها، هي أنه رفَع سقف المطالب كثيراً، ولم يقرأ التطوّرات الإقليمية جيّداً، من خلال سعيه لتحجيم النفوذ الإيراني في العراق، والاستفراد بالتمثيل «الشيعي» في الحُكم وبالتالي بحُكم البلد، في الوقت الذي تتنازل فيه الدول الإقليمية التي أيّدت ذهابه في هذا الخيار، ومنها السعودية والإمارات، مُرغمةً لطهران، بعدما أظهرت الأخيرة تأثيرها الكبير في كلّ الساحات التي تشهد صراعات إقليمية.
يبدو الصدر أمام خيار صعب بين المعارضة التي تُبقيه خارج الوزارات وبين التنازل لتحقيق التوافق


ولعبت عوامل عديدة في الوصول إلى هذه النتيجة، ولا سيما منها تماسك «الإطار التنسيقي» الذي خاض في الأشهر الماضية موحّداً تماماً، المعارك السياسية التي حالت دون نجاح التحالف الثُّاثي وداعميه الإقليميين في السعودية والإمارات وتركيا، في تحقيق هدفه بإقصاء حلفاء طهران عن الحُكم، بعد أن كانت قوى «الإطار» قد خاضت الانتخابات في تشرين الأول الماضي متفرّقة، ما أدّى إلى النتيجة التي أفرزتها تلك الانتخابات. وحتى «الحزب الديموقراطي الكردستاني» لم يلتحق بركْب التحالف الثلاثي إلّا لأنه رأى في إقصاء حلفاء طهران فرصة لتكبير حصّته من الحُكم في إقليم كردستان وفي العراق، على حساب مُنافسِه «الاتحاد الديموقراطي الكردستاني»، ولأنه لا يعتبر نفسه معنيّاً بما يجري في الداخل العراقي، إلّا بما يمسّ الإقليم، وخاصة الموارد النفطية التي تتحكّم بها سلطات كردستان حالياً خلافاً للقوانين العراقية.
وتؤكّد المصادر أن العراق لن يُحكم على مستوى الملفّات الداخلية بالطريقة التي كان يُحكم بها في ظلّ الحكومات السابقة، خاصة أن الانتخابات أفرزت مجموعة كبيرة من النواب المستقلّين تضمّ أكثر من 40 نائباً، وتمثّل حالة الاحتجاج الحقيقي على الفساد الذي ضرب الحكومات العراقية منذ الاحتلال في عام 2003. وكان «الإطار التنسيقي» دعا هؤلاء، في مبادرته الأخيرة، إلى تقديم مرشّح منهم لرئاسة الوزراء، بعدما راهن الصدر، ولا يزال يراهن، على استمالتهم إلى صفّه، ودعاهم قبل أيام إلى تشكيل كتلة خاصة بهم، ومن ثمّ تشكيل حكومة لا يشارك فيها التيار، وإنّما يدعمها في البرلمان مع شريكَيه في التحالف الثلاثي. وترى المصادر أن هذه التطوّرات تفيد باختراق ما تَحقّق في العملية السياسية المسدودة بفعل تمسّك الصدر بحكومة غالبية، وإصرار القوى «الشيعية» الأخرى في المقابل على تشكيل حكومة توافقية، وذلك للمرّة الأولى منذ الانتخابات.