لا تكفّ سلطات العدو الإسرائيلي، عند كلّ مفصل متّصل بمدينة القدس المحتلّة ومعالمها، عن ترداد مقولة حرصها على استمرار «الوضع الراهن» في المسجد الأقصى والتفاهمات المتّصلة به. وهي مقولة لا تفتأ الدلائل تتتالى على كذبها، منذ أن بدأت تل أبيب، تدريجياً، خرق التزامها عدم استفزاز المسلمين، وصولاً إلى ذروة «تآكل» التفاهمات، مع السماح لمَن هبّ ودبّ من اليهود بدخول المسجد وإقامة الطقوس داخله. على أن هذه الخروقات وازاها، في الوقت نفسه، تضييق متصاعد على الفلسطينيين، اتّخذ على مرّ السنوات والأشهر الماضية أشكالاً عدّة، في ما يبدو أنه مسار منتظم ومدروس من أجل الوصول إلى حالة تهويد كاملة، يُطاح بموجبها الحقّ الفلسطيني، من أجل أن يحلّ محلّه «حقّ» يهودي، وهو ما تعمل المقاومة، بكلّ طاقتها، لمنع حدوثه
لم تَعُد خطط إسرائيل للسيطرة على المسجد الأقصى، بما يشمل تقسيمه زمانياً ومكانياً، خَفيّة أو مموَّهة بشعارات من قبيل الحرص على ترتيبات «الوضع الراهن»، والتي لا تفتأ تل أبيب تتجاوزها بشكل مدروس وهادف. وإن كانت المواجهات الأحدث في مدينة القدس المحتلّة قد أعادت تسليط الضوء على تلك الخطط، إلّا أن الأخيرة ليست وليدة أشهر أو أيام، بل هي نتاج مسار طويل، تميّزت المحطّة الجديدة فيه بالتجرّؤ على تطبيق ما خُطّط له قبل سنوات، بعدما لمست تل أبيب إمكانيةً لتصعيد مسار التهويد، خاصة في ظلّ هرولة الأنظمة العربية للتطبيع معها على حساب القضية الفلسطينية.

الوضع الراهن
يُسمع كثيراً، في الأزمات المتّصلة بمدينة القدس، تأكيد كبار المسؤولين الإسرائيليين أنهم لا يريدون تغيير ترتيبات «الوضع الراهن» في المسجد الأقصى، فما هي هذه الترتيبات؟ وما موقف إسرائيل منها؟ ولماذا قد تكون ساعية الآن لتغييرها؟ تعود بدايات التزام إسرائيل بـ«الوضع الراهن» إلى الفترة التي أعقبت احتلال المدينة المقدسة عام 1967، إذ بعد عشرة أيام من ذلك، قرّر وزير الأمن في حينه، موشيه ديان، ترك إدارة الحرم للأوقاف الإسلامية، إلّا أنه اشترط عليها السماح لليهود بدخول المكان وإنْ من دون الصلاة فيه، وهو اشتراطٌ كاد يكون رمزياً، لأكثر من سبب كان يمنع اليهود من الدخول، سواءً بقرار ذاتي منهم مرتبط بمحرّمات الشريعة اليهودية (منعاً لتدنيس «أقدس الأقداس» بنجاسة يتعذّر رفعها قبل أن يَظهر المسيح المخلّص في آخر الزمان)، أو ربطاً بالتفاهمات التي سرت إبّان السيطرة الأردنية السابقة، أو حتى في ظلّ الانتداب البريطاني، وأيضاً - مع استثناءات - في العهد العثماني، بموجب اتفاقية عام 1853 بين السلطنة العثمانية والكنيسة الكاثوليكية التي عُرفت باتفاقية «الوضع الراهن»، ومنحت إدارة الحرم للمسلمين، وحظرت على غيرهم دخوله.
إلّا أن قرار دايان، الذي استند - في ما استند إليه - إلى ضرورة عدم استفزاز الوجدان الديني لدى الفلسطينيين، وتحفيز الضفة خصوصاً على الانتفاض في وجه محتلّيها حديثاً، أسّس لإمكانات تغيير لاحقة، بدأت تظهر تدريجياً في السنوات الأخيرة. صادقت حكومة إسرائيل التي كان يرأسها آنذاك، ليفي أشكول، على قرار وزير الأمن، مُعلِّلةً ذلك بالخشية من ردّات فعل متطرّفة من قِبَل مئات الملايين من المسلمين حول العالم، إضافة إلى ما قالت إنها اعتبارات السياسة الدولية. وعلى أساس المصادقة تلك، جرى تكليف الوقف الإسلامي، برئاسة مجموعة من رجال الدين المسلمين التابعين لوزارة الأوقاف الأردنية، بالاستمرار في إدارة الحرم. سُمّيت الفترة الواقعة ما بين عامَي 1967 و1996 بـ«فترة التفاهمات الصامتة» وفقاً لتوصيفات عبرية، حيث احترم الجانبان التفاهمات التي سمحت للإسرائيليين بدخول المسجد الأقصى بوصفهم سيّاحاً عبر بوابة المغاربة، وفي أوقات متّفق عليها، ومن دون الصلاة فيه. وقد كان عدد هؤلاء محدوداً جدّاً، وتحرّكهم ذا وتيرة منخفضة، ما أتاح تمرير زياراتهم من دون ضجّة وبلا توترات ومواجهات.
منذ عام 2021، بدأت زيارات اليهود تشهد تجاوزاً للتفاهمات بشكل حادّ، وتحديداً من قِبَل جماعات وأفراد من تيّارات الصهيونية الدينية


إلّا أن تلك الحالة تداعت ما بين عامَي 1996 و2003، في محطّتَين رئيسيتَين وسَمهما ضعف ملحوظ في التنسيق بين الجانبَين المعنيَّين: إسرائيل والأوقاف. بدأ انهيار التفاهمات عملياً نتيجة فتح المخرج الشمالي لأنفاق حائط البراق، الأمر الذي أثار قلق الفلسطينيين من إمكانية تحويل المصلّى المرواني (إسطبلات سليمان بالتسمية العبرية) إلى مجمّع صلاة لليهود. وتَواصل هذا الانهيار مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 2000، عقب زيارة أرئيل شارون إلى الحرم في أيلول من العام المذكور، حيث كان في حينه رئيساً لحزب «الليكود»، مع عدد من الوزراء وأعضاء «الكنيست» والناشطين اليمينيين المتطرّفين. مِن بَعدها، أُغلق المسجد أمام غير المسلمين ثلاث سنوات حتى آب 2003، إلى أن عادت الشرطة الإسرائيلية لتسمح لليهود بدخوله، بوتيرة ومواعيد مدروسة، على أن تقتصر زيارتهم على باحاته، ومن دون أيّ طقوس عبادية، كي لا تثير حفيظة الفلسطينيين. أمّا ذروة الانهيار، أو ما يسمّيه المراقبون الإسرائيليون «تآكل الوضع الراهن»، فقد كانت في عام 2021، حيث تحوّل الوضع من: «زيارة نعم، صلاة لا»، إلى «زيارة نعم، صلاة نعم».
مذّاك، بدأت زيارات اليهود تشهد تجاوزاً للتفاهمات بشكل حادّ، وتحديداً من قِبَل جماعات وأفراد من تيّارات الصهيونية الدينية، عمدوا تدريجياً إلى إقامة الطقوس العبادية في ساحات الحرم، مع حلقات دراسة التوراة، فيما كانت الصلوات تتحوّل شيئاً فشيئاً من صامتة إلى صاخبة. وفي الموازاة، شجّعت الشرطة الإسرائيلية على دخول المسجد مَن كان محظوراً عليهم ذلك بموجب قرارات خاصة متعلّقة بـ«التطرف»، كما هو حال جماعة «أمناء جبل الهيكل» الذين سرعان ما صعّدوا استفزازاتهم للفلسطينيين. وبهذا، سُجّلت زيادة كبيرة في عدد الزائرين اليهود، بمن فيهم جنود يرتدون الزيّ العسكري، ضمن خطّة ممنهجة شارك فيها المستوى السياسي بقوة. وكان وزير الأمن الداخلي، غلعاد أردان، بالتعاون مع مفوّض الشرطة الإسرائيلية، روني الشيخ، أصدر تعليماته، فور تسلُّمه منصبه، إلى مسؤولي الشرطة، بتشجيع اليهود على زيارة الحرم، والعمل على إبعاد رجال الوقف الإسلامي عنه، وهو ما بدأ فعلياً منذ عام 2019، وفقاً للإعلام العبري.

ما الذي تَغيّر؟
يمكن إرجاع هذا التحوّل إلى عدّة أسباب، على رأسها أن أكثر من 600 حاخام على اختلاف مراتبهم، وتحديداً من جماعات الصهيونية الدينية، باتوا يسمحون بزيارة الحرم، بل أوجبوه إن أمكن ذلك، فيما بدأ بعضهم يدعو علانية إلى هدم الأقصى وإقامة الهيكل مكانه، باعتبار ذلك جزءاً لا يتجزّأ من مقدّمات ظهور المسيح. وعلى رغم أن تلك الدعوات تتناقض مع اعتقاد «الحريديم»، أي المتديّنين غير الصهاينة، بحقّ المسيح حصراً في إقامة الدولة اليهودية بنفسه، إلّا أن عدداً من هؤلاء باتوا، مع أو من دون موافقة حاخاماتهم، يشاركون جماعات الصهيونية الدينية في الدخول إلى الحرم، وإن بأعداد ما زالت محدودة. يُضاف إلى ما تَقدّم أن الحماية التي توفّرها الشرطة الإسرائيلية للمقتحمين، تُشجّع من يخشى الدخول لأسباب دينية أو قومية أو سياسية، على تجاوز خشيته، علماً أن عدداً كبيراً من السياسيين بات يعتبر دخول الأقصى وتعمُّد استفزاز الفلسطينيين فيه، عنصراً رئيساً من «بروفيله» الخاص الذي يعلن من خلاله يمينيّته وتطرّفه، لكسب ودّ الجمهور.
وتوازياً مع اتّساع أوقات زيارة اليهود، والتي باتت تشمل تقريباً كلّ أيام الأسبوع، على فترتَين يومياً، تصلان إلى ما يزيد عن ستّ ساعات، عمدت إسرائيل إلى التضييق على حقوق الفلسطينيين في الحرم، سواءً بإبعادهم منه في أوقات زيارة اليهود، أو منعهم من الوصول إليه تماماً، أو تصفية مَن يحقّ لهم دخوله وفقاً لأعمارهم، أو منع زيارته بتاتاً لفترات. وهكذا، رست معادلة مفادها بأن أيّ توتّر في المسجد أو خارجه سيؤدّي إلى مزيد من المكاسب اليهودية فيه، الأمر الذي شجّع الجماعات المتطرّفة على تصعيد استفزازاتها داخله. وعلى رغم عدم الإعلان رسمياً عن ذلك، إلّا أن الوضع حتى الأمس القريب كان يسير فعلياً نحو تقسيم زماني ومكاني بين اليهود والفلسطينيين، لا بصورة مباشرة، وإنما موارَبةً عبر تدوير الحقّ المكاني زمانياً (عندما يدخل اليهود، يُمنع الفلسطينيون من الوجود)، الأمر الذي قد يفضي لاحقاً إلى ما يزيد عن مجرّد تقسيم مكاني وزماني، كما هو الحال في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
مع ذلك، ثمّة فرق كبير بين سلوك الحكومات الإسرائيلية السابقة، وسلوك الحكومة الحالية. في السابق، كانت السلطات تعمل فوراً على منع اليهود من زيارة الحرم، جماعات وفرادى وكذلك سياسيين وأعضاء «كنيست»، كي تمتّص نقمة الفلسطينيين، وإن كانت أسباب التوتّر مُحرَّكةً ومرعيّة من قِبَلها. لكن حالياً، بات الأمر مغايراً؛ إذ ثمّة تركيز على إدامة مظاهر التهويد، من دون المسارعة إلى امتصاص تداعياتها. بتعبير آخر، باتت المقاربة أكثر جرأة، وربّما هي في المراحل الأخيرة من مسيرة التهويد، علماً أن القرار الأخير بمنع دخول اليهود إلى الحرم حتى نهاية شهر رمضان، جاء قسرياً وبناءً على مقدّمات جاهدت إسرائيل طويلاً للحؤول دونها، وهو ما يمثّل دليلاً جديداً على إمكانية فرملة إرادة الاحتلال بقوّة صمود الفلسطينيين ومقاومتهم. مع ذلك، فإن التراجع بعد تحقيق جزء من الأهداف، لا يلغي الأهداف نفسها، وفي المرّة المقبلة ستبدأ إسرائيل خطوات التهويد من النقطة التي انتهت إليها، الأمر الذي يلقي مزيداً من المسؤولية على الفلسطينيين، في ظلّ تواطؤ الأنظمة العربية، التي تتفاعل مع أحداث الأقصى بمزيد من التطبيع مع العدو. بالنتيجة، المرحلة حسّاسة جدّاً، ويمكن أن تبني إسرائيل على نتائجها كلّ ما تستطيع بناءه، وصولاً إلى إلغاء الحق الفلسطيني في المكان تماماً، وإحلال «حقّ يهودي» آخر بدلاً منه. وعليه، عندما يتحدّث المسؤولون الإسرائيليون عن أنهم يحفظون «الوضع الراهن» وتفاهماته، فهم يكذبون. والكذب هنا فاضح ومباشر، ضمن مسار مقرَّر مسبقاً يستهدف التهويد الكامل للمكان، وتتحوّل محطّاته بذاتها، في حال جرى تمريرها من دون مقاومة، إلى جزء لا يتجزّأ من هذا «الوضع الراهن».