لا تبدو الأحداث المتجدّدة في الحسكة، حيث تحاصر القوات الكردية (الأسايش – قوات الأمن الداخلي التابعة للإدارة الذاتية) المدينة وتوقف إنتاج الخبز فيها، معزولة عن التطوّرات الإقليمية والدولية، والتي جاءت بالتوازي مع بلورة واشنطن مشروعها في سوريا، في ظلّ حُكم الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، بعد فترة من التخبّط خلال حُكم الرئيس السابق، دونالد ترامب، وضبابية موقف بايدن بداية تولّيه الرئاسة. وتذكّر الأحداث الحالية بمحاولات كردية جرت خلال الشهور الماضية للتضييق على مناطق سيطرة الحكومة السورية في الحسكة، حيث تسيطر دمشق على المربّع الأمني في مدينتَي الحسكة والقامشلي، إضافة إلى مطار القامشلي العسكري، ومواقع عدّة في الريف، بينها مواقع عسكرية. ويأتي التصعيد الكردي الجديد بالتزامن مع ارتفاع مستوى التوتّر الروسي – الأميركي على خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا، والعملية المضادّة التي تقودها واشنطن لإفشال موسكو ومحاصرتها.في هذا السياق، تشكّل منطقة شرق الفرات ساحة صراع متشابكة، في ظلّ وجود قوى عدّة، حيث تتحصّن الولايات المتحدة في المناطق النفطية ومحيطها، وتقدّم الدعم للأكراد الذين يتولّون عملية تأمين مواقع القوات الأميركية، في وقت تنتشر قوات روسية وسورية، إضافة إلى الفصائل التابعة لتركيا والتي تتشارك مع «قسد» حدود سيطرة واسعة تُعتبر خطوط تماس مستمرّة الاشتعال. وحتى وقت قريب، وقبل اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، حاولت الولايات المتحدة إعادة هيكلة القوى السورية المعارضة، وتشكيل جسم موحّد يضمّ الأكراد (قوات سوريا الديموقراطية التي تقود الإدارة الذاتية)، وذلك بهدف ضمان حضور وازن للمعارضة في المسار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة (اللجنة الدستورية)، عن طريق توحيد الأكراد المنقسمين بين «قسد» التي يقودها «حزب الاتحاد الديموقراطي»، ذي الصلة الوثيقة بحزب «العمّال الكردستاني» المصنّف على لوائح الإرهاب التركية، وأحزاب كردية أخرى لا تتمتّع بوزن حقيقي في الساحة الكردية، مدعومة من أنقرة (المجلس الوطني الكردي)، ودمجهم بالقوى المعارِضة التي تنشط من تركيا.
على أن التوجّه الأميركي الذي كان يراد منه إبقاء الوضع الميداني في سوريا (وجود مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة) على حاله، بما يحصّن الوجود الأميركي هناك، اصطدم بمعوّقات عدة، أبرزها الموقف السوري - الروسي المتشدّد حيال الوجود الأميركي، والموقف التركي الرافض لـ«قسد»، إضافة إلى استمرار العمليات العسكرية التي تنفّذها فصائل محلّية ضدّ المواقع الأميركية، والتي تتّهم واشنطن طهران بالوقوف وراءها، حيث باتت تشكّل هذه العمليات تهديداً حقيقياً للقوات الأميركية، التي ظلّت حتى وقت قريب بعيدة من الاستهداف. ويبدو أن التطوّرات الأخيرة والمتسارعة دفعت الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في سياستها في سوريا بشكل عام، الأمر الذي ظهر بشكل واضح عن طريق إعادة إحياء مشروع تدريب قوات كردية خاصة لحماية المصالح الأميركية، وهو مشروع كان قد بدأ خلال فترة حُكم ترامب - الذي انصبّ اهتمامه على سرقة النفط السوري -، وأُهمل بداية تولّي بايدن الحكم.
وخلال الشهرَين الماضيين، وتحت عباءة «محاربة الإرهاب»، أعادت الولايات المتحدة تفعيل مشروع بناء فصائل وميليشيات خاصة تابعة لها لحماية مصالحها، الأمر الذي يفسّر التدريبات والمناورات المكثّفة التي تجريها بشكل مستمرّ في محيط المناطق النفطية في الشرق السوري، بعد ضمان تمرير بند واضح في تفويض الدفاع الوطني الأميركي للسنة المالية 2022 - والذي وقّعه بايدن في شهر كانون الأول نهاية العام الماضي -، خصّص مبلغ 177 مليون دولار لعمليات تدريب الأكراد. اللافت في المبلغ أنه يعتبر منخفضاً عن الأعوام السابقة (200 مليون دولار العام 2021، و300 مليون دولار العام 2019)، وهو ما يتّسق مع التوجّه الأميركي للتقوقع في المناطق النفطية وحمايتها، واستمرار التخلّي عن المناطق التي تقع على تماس مع القوات التركية، خصوصاً أن هذا الإجراء جاء بالتوازي مع عمليات إصلاح آبار نفطية، واستقدام آليات حديثة لعدد من الحقول التي تسيطر عليها واشنطن، وذلك بهدف زيادة الإنتاج، حيث تجري عمليات تهريب النفط إلى مناطق سيطرة الفصائل التركية في الشمال السوري، وإلى كردستان العراق، وفق تأكيدات سورية وروسية تتابع وتوثّق عمليات سرقة النفط السوري.
ولا يقتصر النشاط الأميركي على ضمان مصالح واشنطن النفطية فحسب، بل تسعى الولايات المتحدة، إضافة إلى تموضعها على الطرق التي تربط إيران بسوريا ولبنان، إلى ضمان استعمال منطقة شرق الفرات ساحة إشغال سياسي وعسكري قابل للتفاوض. ويفسّر ذلك زيادة وتيرة الاستهدافات الجوّية التركية لمواقع «قسد»، وسط صمت أميركي، في وقت يجري الحديث عن صفقة تركية - أميركية تقضي بغضّ الطرف عن العمليات العسكرية التركية مقابل مواقف أكثر تشدّداً حيال روسيا في الحرب الأوكرانية، ما يتوافق مع السلوك المتناقض الذي تبديه أنقرة، والتي تحاول لعب دور وسيط للحلّ من جهة، وتصعّد بشكل غير مباشر ضدّ موسكو من جهة أخرى، مثل تصويتها لصالح تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان قبل أيام. أيضاً، تحاول واشنطن استثمار منطقة شرق الفرات لإشغال روسيا والضغط عليها عن طريق دفع الأكراد إلى محاولة قضم مناطق في الحسكة أو حتى التضييق على مناطق الحكومة السورية التي تدعمها موسكو.
ووسط حالة «الفوضى» التي تخلقها الولايات المتحدة وتستثمرها في مناطق شرق الفرات، تحاول «قسد» إحكام سيطرتها، أملاً بنجاح مساعيها لفرض نفسها كأمر واقع يضمن لها استمرار «الإدارة الذاتية»، أيّاً كانت نتائج المسارات السياسية للحلّ في سوريا، والتي لا يزال الأكراد خارجها حتى الآن، حيث تشكّل أحداث الحسكة الحالية «بالون اختبار» يقيس رد الفعل السوري والروسي، والتي يبدو أنها لا تزال حتى الآن هادئة وبعيدة من الانزلاق إلى مواجهات عسكرية غير محضّر لها تخلق مزيداً من الفوضى.