دمشق | في تقرير أعدّته مؤسسة «راند» البحثية، والتي تُعتبر «العقل المدبّر للبنتاغون»، اعترفت الولايات المتحدة، بشكل غير مباشر، بارتكاب جرائم خلال العمليات العسكرية في مدينة الرقة، في وقت حاولت فيه تمرير مجموعة كبيرة من المعلومات المغلوطة حول مجريات الأحداث، بالإضافة إلى تبرير الفشل الذي مُنيت به القوات الأميركية هناك، على الرغم من القوّة النارية الكبيرة والأسلحة المحرَّمة دولياً التي استخدمتها. التقرير الذي تداولت مقتطفات منه وسائل إعلام على نطاق واسع خلال اليومَين الماضيَين، بعدما أُعدّ بطلب من «البنتاغون» نفسه، الذي يعتمد على «راند» في إجراء بحوث أمنية وعسكرية، وإجراء تقييمات ميدانية وتكتيكية مختلفة، بالإضافة إلى رسم استراتيجيات، تعامَل مع مجريات المعركة والدمار والجرائم التي ارتُكبت على أنها «درس يجب الاستفادة منه»، عن طريق الخروج بمجموعة من «التوصيات لتحسين الإجراءات والاستراتيجيات العسكرية».وبالإضافة إلى المغالطات التي حاول التقرير تسويقها، مِن مِثل حصر المدّة الزمنية للعمليات العسكرية بخمسة أشهر، على رغم أن «التحالف» بدأ عملياته الجوّية قبل التوغّل البرّي بنحو عامين تقريباً، وحصْر الأضرار بمدينة الرقة وحدها، وغضّ الطرف عن المجازر وعمليات التدمير الممنهجة التي طاولت ريف الرقة ومناطق في ريفَي الحسكة ودير الزور، بالإضافة إلى الإضرار بسدّ الفرات، ما هدّد مئات القرى والبلدات التي يقطنها مئات الآلاف بالموت غرقاً، حاول التقرير تبرير هذه الجرائم بأنها ناجمة عن «استعمال آليات تهدف إلى الحدّ من الخسائر البشرية في صفوف القوات الأميركية، عن طريق الاعتماد على القصف الجوي والمدفعي بدلاً من التقدّم البري». واللافت في التقرير أنه، وبالرغم من محاولته «تبييض» صفحة الجيش الأميركي، فقد اعترف بارتكاب مجازر أودت بحياة الآلاف، بينهم 1600 ضحية تمّ الاعتراف بهم، وتدمير نحو 80% من المدينة، حيث طاول الدمار البنى التحتية والمرافق الخدمية والصحية، بالإضافة إلى المجمّعات السكنية وغيرها، في حين اعتبر أن «آلاف الضحايا الذين سقطوا قد يكونون قُتلوا على يد تنظيم «الدولة الإسلامية» أو مقاتلين آخرين على الأرض.
وزارة الدفاع الأميركية، والتي يبدو أنها اختارت تحمّل المسؤولية بشكل غير مباشر والاعتراف ببعض المجازر فقط لإسكات الأصوات التي تُواصل العمل على فضح الجرائم التي تمّ ارتكابها، ومن بينها تقارير صحافية تُنشر بشكل متواتر، وتقارير «منظّمة العفو الدولية» التي أطلقت موقعاً خاصاً لهذا الغرض، حاولت الالتفاف أيضاً على ما جرى عن طريق إظهار خطوة «راند» وكأنها «عمل بطولي قامت به واشنطن على سبيل الانتقاد الذاتي». ولعلّ ذلك هو ما تجلّى بوضوح في تصريحات للسكرتير الصحافي لـ«البنتاغون»، جون كيربي، الذي قال لوكالة «أسوشيتد برس» إنه «لا يوجد جيش آخر يعمل بجدّ كما نفعل للتخفيف من الأضرار المدنية، ومع ذلك ما زلنا نتسبّب بها، سنواصل محاولة التعلم من القضايا الماضية».
بالرغم من محاولة «تبييض» الجيش الأميركي اعترف تقرير «راند» بارتكاب مجازر أودت بحياة الآلاف


كذلك، يمثّل هذا التقرير حلقة جديدة من حلقات مسلسل الالتفاف على حقيقة الفشل العسكري الكبير الذي مُنيت به واشنطن في الرقة، التي تطلّبت السيطرة عليها نحو عام كامل من القصف والغارات المتواصلة (بين شهرَي تشرين الثاني 2016 وتشرين الأول 2017)، استُعملت خلاله قوّة نارية غير مسبوقة، إلى درجة دفعت الرائد جون واين تروكسيل، وهو مستشار كبير لدى رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، إلى القول إن «أفراد كتيبة تابعة لمشاة البحرية (المارينز) أطلقوا 30 ألف قذيفة مدفعية خلال 5 أشهر في الرقة، أكثر من أيّ كتيبة مدفعية أخرى لعناصر مشاة البحرية في الجيش الأميركي منذ حرب فيتنام»، التي وضعت أوزارها عام 1975، بالإضافة إلى الغارات الجوية المتواصلة، واستعمال «الفوسفور الأبيض» المحرّم دولياً.
وأنكرت واشنطن، مراراً، ارتكاب أيّ مجازر، إلى حدّ دفع قائد قوات «التحالف» حينها، الجنرال الأميركي ستيفن ج. تاونسند، إلى القول «إنني أتحدّى أيّاً كان أن يجد في تاريخ الحروب حملة جوّية أدق من حملة التحالف. إن الهدف الذي ينشده التحالف دائماً هو انعدام الخسائر البشرية»، قبل أن تُظهر عمليات التوثيق المتواصلة حقائق مناقضة للتصريحات، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة في البداية إلى تحمّل المسؤولية حول «عشرات الضحايا»، لتتبع ذلك اعترافات خجولة بمزيد منهم. وبينما يدور الجدل حول عدد هؤلاء، ونسبة الدمار، تُظهر الأوضاع الميدانية التي خلّفتها الحرب «كارثة إنسانية» كبيرة في المناطق التي استهدفتها الولايات المتحدة في سوريا، حيث يعيش بضعة آلاف من السوريين في الرقة على أنقاض المدينة المدمّرة التي تسيطر عليها «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، في حين لا تزال عمليات إزالة الركام قائمة بتواتر منخفض، وسط تَكشُّف مقابر جماعية بين وقت وآخر، وجثث تحت أنقاض المباني.
أمّا في الريف النائي عن مركز المدينة، والبعيد عن عين الإعلام، فتبدو الصورة أشدّ قسوة، خصوصاً أن الولايات المتحدة التي أعلنت قبل ثلاثة أعوام القضاء على تنظيم «داعش»، عادت مع تولّي الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، مقاليد الحُكم، إلى الحديث عن خطر التنظيم، وضرورة بقاء القوات الأميركية لمحاربته. وتزامن ذلك مع عودة نشاط مقاتلي «داعش» بالفعل، وسط اتهامات بتقديم الولايات المتحدة مساعدة للتنظيم لضمان وجود «حجّة» لبقاء القوات الأميركية، ما يعني بشكل أو بآخر فشل واشنطن في حربها بعد سبعة أعوام من تشكيل «تحالف دولي» تحت قيادتها من أجل هذه المهمّة، على الرغم من الدمار الكبير والمجازر والتكاليف الباهظة التي وصلت في بعض المراحل إلى نحو 10 ملايين دولار يومياً، وفق تقديرات «البنتاغون».