إنه صراع أبدي على الطريقة الكويتية، بين قوّتَين لا تستطيع إحداهما إلغاء الأخرى: أسرة الحُكم والمعارضة القبَلية – الإسلامية، بحيث يبدو التأزيم قدَر تلك الديموقراطية النسبية التي تبدو عصيّة على السقوط، على رغم كلّ ما يحيط بالبلاد من اضطرابات. ما يختلف هذه المرّة أن القيادة السياسية أضعف ممّا كانت عليه سابقاً، ما جعل المعارضة أجرأ في الهجوم على الحكومة، وأدخل الكويت في أزمة حادّة. فالأمير نواف الأحمد الصباح، لا يمارس مهامّه كاملة بسبب المرض، ووليّ العهد مشعل الأحمد، هو رجل النظام القوي، لكنه ليس الأمير. والقيادة تحتاج على الأقلّ إلى تسلسل واضح لانتقال السلطة، يتيح لها التفرّغ لمواجهة تحدّيات متعدّدة منها معارضات داخلية أقوى، بدل أن تكون مهجوسة أبداً بتوفير أسباب استقرار الحُكم، في ما يمثّل واحدة من نقاط الضعف في ممالك وإمارات الخليج كلّها، خاصة في ظلّ أزمات كالتي تعيشها اليوم. لكنّ الكويت محسودة من شعوب الخليج، وممقوتة من حكّامه، وخاصة في السعودية والإمارات، اللتين تتربّصان شرّاً بالتجربة الكويتية، من خلال تصويرها كبوّابة لانعدام الاستقرار والفوضى. وللأخيرتَين أصابع تلعب في الكويت، وخاصّة الرياض التي تَعتبر نفسها وصيّة على جارتها - بفعل «جميل» احتضان الكويتيين خلال الغزو العراقي -، لا تستطيع لا القيادة ولا المعارضة الخروج من عباءتها، إنّما في الوقت نفسه، لا ترغب المعارضة، ولا تستطيع القيادة، التخلّي عن تجربة عزيزة على الكويتيين.في ظلّ هذه الحدود، يتحوّل الصراع على السلطة إلى لعبة قطّ وفأر. وصباح الخالد، بقيادته المرتبكة للحكومة، صار الخاصرة الرخوة للقيادة، فما عاد ممكناً المحافظة على بقائه على رأس الحكومة بعدما طرحت المعارضة «عدم تعاون» معه لإسقاطه. وصار شبه مؤكّد تصويت 26 من أصل 50 نائباً منتخَباً لمصلحة «عدم التعاون»، فيما يُتوقّع أن يقدم الرئيس استقالة الحكومة إلى القيادة اليوم، بعدما قدّم وزراؤه استقالاتهم إليه قبل الإفطار أمس. كان من المفترض أن تكون الكويت مزهوّة بارتفاع أسعار النفط، وما توفّره من فوائض مالية، لكن تلك الأيام ولّت؛ فالإنفاق تضخّم إلى حدّ أن المستويات الحالية للأسعار بالكاد تكفي لتحقيق التوازن في الميزانية، وإن فعلت، فلن تغطّي العجوزات التي تَحقّقت في سنوات كساد النفط، التي اضطرّت خلالها الحكومة للاستدانة، لأن النفط يكاد يكون مصدر الدخل الوحيد للخزينة. المعارضة، قد تكون محقّة في المطالبة بإعادة هيكلة الاقتصاد، لكن ذلك ليس سهلاً في مجتمع غير منتِج، يعيش على التقديمات الحكومية السخيّة التي تستخدمها السلطة لكسب رضى المواطنين، ويزايد عليها النواب في المطالبة بمزيد من الإنفاق لتحقيق الشعبية. فالكلّ مشارك في استمرار تلك الصيغة. وهنا قد يكون للديموقراطية، أو بالأحرى لخوف القيادة والنواب منها، دور سلبي؛ إذ يستطيع حاكم مستبدّ أن يفرض ما يشاء من إصلاحات اقتصادية مثل وضع الضرائب وإلغاء الدعوم، كما حصل في السعودية والإمارات مع ضريبة القيمة المضافة، مثلاً، وهذا غير قابل حتى للتصوُّر في الكويت التي لا تفرص أيّ ضرائب وتدعم بشكل كبير موادَّ أساسية كالمحروقات والطحين. ذات مرّة، تساءل نواب في غمرة صراع سابق مع السلطة: «وين راحت المليارات؟»، فردّ عليهم الأمير الراحل صباح الأحمد بالقول: «إنكم أنتم أنفقتموها. هل راحت المليارات لإسرائيل؟».
صباح الخالد مجرّد واجهة لنزاع عميق بين الأسرة والمعارضة


واحدة من عثرات صباح الخالد الكثيرة، كانت حين قرّر الشهر الماضي قبول المحافظات الكويتية هبات وتبرّعات نقدية من داخل الكويت والدول الشقيقة لتنفيذ المشاريع، مُثيراً عاصفة استياء بين الكويتيين الذين يتباهون بأن بلدهم يقدّم مساعدات سخيّة للدول الأخرى. لم تَخرج الاتهامات لصباح الخالد الذي صعد منصّة الاستجواب النيابي قبل أيام، عن السياق العام لِمَا حصل مع عدد كبير من سابقيه. فالاستجواب المُقدَّم من النواب مهند الساير وخالد العتيبي وحسن جوهر، تألَّف من 3 محاور تتعلّق «بالممارسات غير الدستورية لرئيس الوزراء، وتعطيل مصالح المواطنين، وعدم التعاون مع المؤسسة التشريعية، والنهب المنظّم للأموال العامّة والعبث بثروات الشعب الكويتي». لكن اللهجة التي يخاطب بها النواب الخالد أكثر حدّة، إذ سأله النائب جوهر، وهو الشيعي الوحيد المتحالف مع المعارضة الإسلامية: «عاجبك وضع البلد؟». والخالد، هو مجرّد واجهة لنزاع عميق بين الأُسرة وبين المعارضة البرلمانية، التي لا تفتأ تطالب بإعادة توزيع الثروة التي يَعتبر النواب أنها موزَّعة بشكل غير عادل، وتميل إلى مصلحة كبار التجّار الذين يُعتبر ممثّلَهم الأبرز رئيسُ مجلس الأمة، مرزوق الغانم، ويتجسّد ذلك خصوصاً في حلفه الجديد مع رئيس غرفة التجارة والصناعة محمد جاسم الصقر، وريث والده علي الغانم، في الغرفة. ومرزوق نفسه تتقاطع عليه كبرى العائلات التجارية، فهو ابن شقيقة رجل الأعمال الراحل ناصر الخرافي، ورئيس مجلس الأمّة الراحل جاسم الخرافي، ويقود أعمامُه وأخوالُه إلى جانب أفراد أُسرة الحُكم، الشركات التي تنفّذ التعهّدات الكبرى في الكويت، فضلاً عن امتلاكهم حصصاً استراتيجية في أكبر البنوك وشركات الاتصالات ووكالات أهمّ العلامات التجارية والسيارات. من هنا، فإن حلّ مجلس الأمة يضع في الميزان أيضاً مصير مرزوق، الذي نجح حتى الآن في صدّ المعارضة التي تتزايد قوّتها في كلّ انتخابات جديدة تُجرى في البلد. فإذا استطاعت المعارضة يوماً إسقاط مرزوق، قد تَصعب الخيارات أكثر على القيادة، بحيث يصبح تعليق العمل ببعض مواد الدستور لتعطيل الحياة البرلمانية، خياراً محتملاً، إلّا أن هذا قد يؤدي إلى نقل الأزمة إلى الشارع الذي تملك المعارضة قدرة كبيرة على تحريكه.
هكذا، لم تَطُل الهدنة التي أعقبت ما سُمّي «الحوار الوطني» الذي عُقد قبل أشهر، وعاد بموجبه إلى البلد بعض أشرس رموز المعارضة المهجَّرين إلى تركيا، والذين هربوا نتيجة صراعات سابقة مماثلة واكبت «الربيع العربي». والصراع الحالي يواكب حالة القلق التي يعيشها الخليج الحائر في البحث عن حمايات لأنظمته بين الشرق والغرب. ولذا، فإن القيادة قد تلجأ إلى حلول جذرية، مستفيدة من أن المعارضة ما زالت غير قادرة على توفير بديل قابل للحياة، أو فرض اقتسام أفضل للسلطة والثروة. ومن هذه الحلول، تعزيز تسلسل انتقال الحُكم من خلال تصدير الوجوه الشابّة التي بدأت تبرز كثوابت في الوزارات، مثل وزير الداخلية، أحمد نواف الأحمد، المطروح اسمه لرئاسة الوزراء، ووزير الخارجية، أحمد ناصر المحمد، الذي تقرّب إلى السعودية من خلال مبادرته في لبنان، وغيرهما. وقد كان من سوء طالع الكويتيين أن الاضطراب السياسي ترافق مع سلسلة حرائق ضربت الكويت خلال أيام قليلة، وكان أكبرها ذلك الذي أتى قبل أيام على جزء مهمّ من سوق المباركية التراثي الذي يمثّل رمزاً للإمارة، بماضيها وحاضرها، منذ أن كانت مركزاً لصيد اللؤلؤ والأسماك وتجارة الأقمشة والتوابل، إلى أن صيّرها النفط إحدى لآلئ الخليج، مع احتفاظها بأعرق تجربة حرّيات سياسية وعامة على شواطئه.