السودان والإمارات: نجاعة المشروطية مثّلت زيارة عبد الفتاح البرهان لأبو ظبي (10 - 13 آذار) محاولة أخيرة لاستعادة الدعم الاقتصادي والأمني بعد فتور ملموس منذ تشرين الثاني 2021. وأكدت مصادر سودانية موافقة محمد بن زايد على ضخّ كمّيات كبيرة من الأموال في البنوك السودانية، وإقامة ما وصفه جبريل إبراهيم، وزير المالية السوداني، بـ«شراكات اقتصادية استراتيجية هائلة» في الطرق والسكك الحديدية والموانئ، ورفع مستوى «التعاون العسكري»، في ما اعتبره محلّلون خطوات جادّة نحو خصخصة ميناء بورسودان لصالح شركات إماراتية. وكانت الخرطوم رفضت، بشكل متكرّر (ولا سيّما في ذروة تأزّم الموقف بخصوص سدّ النهضة الإثيوبي)، مقترحات إماراتية بشمول منطقة الفشقة السودانية بمبادرةٍ سحبتها أبو ظبي قبل نحو عام (أيار 2021)، وكانت تنصّ على تسهيل استثمارات زراعية إماراتية - إثيوبية في المنطقة، بعد تحرير الجيش السوداني لها. كما كانت القيادة السودانية الجديدة أرسلت إشارات إلى إمكانية السماح لتركيا أو روسيا بإقامة قواعد لوجيستية أو عسكرية على ساحل البحر الأحمر. لكن يبدو أن الضغوط الإماراتية على «مجلس السيادة» قد حقّقت أهدافها، في ظلّ فشل المجلس في انتهاج سياسات متماسكة تحظى بقبول شعبي، وتصاعُد الغضب الشعبي ضدّه على خلفية الظروف الاقتصادية الطاحنة في البلاد. وبدت دلائل هذا النجاح في إعلان الخرطوم، قبيل نهاية آذار، بدء ضخّ عملة صعبة في البنوك حتى منتصف نيسان، بعد تلقّي البنك المركزي السوداني ودائع من الإمارات والسعودية.

السعودية: سيناريو تبدّل الأولويات
لم تكد مخرجات زيارة البرهان لأبو ظبي تتّضح، حتى تَوجّه الرجل إلى جدّة (21 - 22 آذار)، حيث عقد اجتماعاً موجزاً مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي أكد استعداد بلاده للاستثمار في السودان «في جميع المجالات ذات النفع المشترك»، مع التشديد على أهمية التعاون في مجال أمن البحر الأحمر والتعاون العسكري وتبادل الخبرات. وبالفعل بادر السودان، لاحقاً، إلى إدانة الهجمات اليمنية على المنشآت الحيوية السعودية، وأكد دعمه التامّ للمملكة «في مواجهة أيّ خطر يستهدف أمنها واستقرارها». كما وقّعت الرياض على البيان المشترك لـ«أصدقاء السودان» (29 آذار)، والذي أكد الالتزام بمواصلة «تقديم دعم مباشر للسودانيين خلال هذه الفترة العسيرة»، داعياً في الوقت نفسه إلى «استعادة حكومة انتقالية ذات مصداقية»، وإفساح «الطريق أمام استعادة المساعدات الاقتصادية والإعفاء الدولي من الديون».
وفيما تمثّل أيّ تهدئة في الجبهة اليمنية تراجعاً لأهمية السودان في الملفّ العسكري والأمني لدى الرياض، التي أعلنت بالفعل وقفاً لإطلاق النار في اليمن طوال شهر رمضان، فإنه لا يُتوقّع - بأيّ حال - تراجُع أهميته لناحية توفيره رافداً مهماً ومستداماً للأمن الغذائي السعودي. ويعزّز حضور الاستثمارات السعودية في قطاع الزراعة في السودان، حيث تتمتّع بامتيازات شبه مطلقة، سعي «مجلس السيادة» إلى تعويض تشوّه هيكل الاقتصاد السوداني، ترقّباً لاستئناف برنامج إعفاء السودان من ديونه الخارجية. ومن المتوقّع، في هذا المجال، اتفاق الخرطوم والرياض على تقديم الأُولى حزماً معقّدة لتحفيز الاستثمارات السعودية، الزراعية تحديداً، في ما سيقود إلى تحقيق طفرة في واردات السعودية من السودان (التي لم تتجاوز قيمتها 241 مليون دولار عام 2020، مقابل صادرات بقيمة 644 مليون دولار في العام نفسه)، وإعادة فتح السوق السودانية أمام الاستثمارات السعودية المباشرة بعد توقّعات بوصولها في الربع الأخير من العام الماضي إلى 10 بليون دولار، قبل الإطاحة برئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك.
بدت زيارة البرهان للقاهرة منطقية تماماً في أعقاب النشاط الديبلوماسي الإقليمي


البرهان في القاهرة: إعادة صياغة «ورقة السياسات»؟
بدت زيارة البرهان للقاهرة (30 آذار) لمقابلة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، منطقية تماماً في أعقاب النشاط الديبلوماسي الإقليمي الذي أسفر عن بعض الترتيبات السياسية والاقتصادية والعسكرية الجديدة. كما يمكن قراءة هذه الزيارة في ضوء عدّة اعتبارات، أهمّها ما تَردّد في النصف الثاني من آذار، عن إطلاق الإمارات واستضافتها وساطة بين أطراف أزمة «سدّ النهضة» (وهي تقارير أكدها البرهان خلال وجوده في الرياض)؛ وكذلك انفتاح «مجلس السيادة» على «جميع المبادرات التي تسهم في تحقيق استقرار السودان» قبيل نحو أسبوع من تظاهرات 6 نيسان؛ إضافة إلى وجود مبعوث الأمم المتحدة الخاص للسودان، فولكر بيرثيس، في القاهرة (30 آذار)، ولقائه وزير الخارجية المصري، سامح شكري، في اختتام مشاورات مطوّلة للأول مع «المعنيّين السودانيين» لوضع أساس لحوار وطني، تمهيداً للخروج من مأزق المرحلة الانتقالية الحالي.
وبغضّ النظر عن «المسار الاستراتيجي» الذي يربط مصر والسودان (وتَعزّز بشكل غير مسبوق بعد توقيع اتفاق التعاون العسكري بينهما في آذار 2021) بمصالح وجودية صمدت أمام متغيّرات كثيرة، ربّما كان أبرزها أخيراً غضب سوداني على مقاربة مصر لبعض ملفّات التعاون مثل التعليم والتجارة (وهو غضب سارعت القاهرة إلى احتوائه)، فإن زيارة البرهان تؤشّر إلى تغيّرات مرحلية لمواجهة التهديدات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي يشهدها السودان، وتُمثّل أولوية قصوى في مقاربة القاهرة. وجاء على قمّة أجندة البرهان في مصر التوصّل لرؤية «مقبولة»، بوساطة مصرية، لمواجهة تعطّل مسار المرحلة الانتقالية، وتفادي مزيد من التصعيد. ومن هنا، يُتوقّع أن تُضاعف القاهرة، التي كشفت مصادر سودانية عن تكثيفها منذ أسابيع التواصل مع أطراف الأزمة السياسية، انخراطها مع هذه القوى من أجل تقريب وجهات النظر، ودفع «مجلس السيادة» إلى توسيع قاعدة صنع القرار، والالتزام بما أعلنه من عقد الانتخابات التي سيسلّم بمقتضاها السلطة للمدنيين في تموز 2023.
كذلك، يلاحَظ إجماع عدد من المراقبين على اعتبار الزيارة مناسبة لاستكشاف مصر مزيداً من فرص تعزيز التعاون الزراعي مع السودان، ولا سيّما في مجال زراعة القمح، لتفادي أكبر قدر ممكن من التداعيات السلبية على وارداتها من القمح من أوكرانيا وروسيا، إلى جانب عدد من الملفّات التقليدية مثل التعاون في أمن البحر الأحمر، ودعم التعاون العسكري - الأمني، فضلاً عن ملفّ سدّ النهضة.

خلاصة
يسعى البرهان إلى تجاوز العوائق أمام سلاسة المرحلة الانتقالية في بلاده، عبر البوّابة الآمنة: إعادة التموضع الإقليمي واتّساق السودان مع التوجّهات العامة للأطراف المعنيّة بشؤونه. وشهد شهر آذار بلورة لهذه المساعي اختتمها بزيارة كلاسيكية للقاهرة في توقيت بالغ الحساسية، قياساً إلى ظروف السودان الداخلية وتطوّرات السياسات الإقليمية. وبشكل عام، فإن إعادة تموضع السودان إقليمياً، عبر تنسيق ضروري ومبرَّر مع بعض الأطراف الإقليمية، يمكن أن يسهم في تجاوز عقبات عدّة، من تصاعد الحركة الاحتجاجية وقدرتها على الحشد، واحتدام الأزمة الاقتصادية وتداعياتها، إلى سيناريو العزلة الدولية مجدّداً.