القاهرة | «اللي رَزقك والدولار بـ16 جنيه، قادر يرزقك والدولار بـ20»؛ هذا هو ملخّص توجيهات الأجهزة الرسمية في مصر للمتعاملين معها، والذي يتحدّث عن ضرورة الإيمان بأن كلّ شيء مكتوب، في مواجهة التدهور المستمرّ في الوضع المعيشي. وهو عيْن ما عبّر عنه الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل ساعات من التعويم الثاني للجنيه في حُكمه خلال 8 سنوات، وأيضاً ما تداوله إعلاميو النظام الذين روّجوا لارتفاع البورصة، والانتعاش الكبير في الاستثمارات العربية التي دخلت البلاد. ولم يكن سعر الجنيه، عندما تسلّم السيسي الحُكم عام 2014، يتجاوز 8 جنيهات، أمّا اليوم فوصل إلى 18.30 جنيهاً مقابل الدولار الواحد، وهو سعر لا يزال غير حقيقي وفق تقديرات مختصّين، لعدّة أسباب في مقدّمتها تدخّل البنك المركزي لتحجيم استيراد السلع بالدولار، وتقييد عملية سحب الجنيه المصري من البنوك المختلفة بمبلغ 50 ألف جنيه فقط يومياً للأفراد. على أن التعويم هذه المرّة لم يكن اختيارياً، بعدما خرج من مصر نحو 15 مليار دولار بحسب تقديرات بنك «مورغان ستانلي» في الأسابيع الماضية فقط، وهي مبالغ تعادل نحو ثلث احتياطي النقد الأجنبي المصري، عبارة عن أموال استثمرها الأجانب في أذون وسندات الخزينة بالعملة المحلّية، وقرّروا الخروج بها مرّة أخرى في ما يُعرف بـ«الأموال الساخنة»، في حين يعوّل النظام المصري على عودتها مرّة أخرى، مع رفع معدّلات الفائدة بنسب أكبر خلال الفترة المقبلة، فضلاً عن ميزة تخفيض سعر الجنيه التي ستتيح للمستثمر ضخّ مبالغ أكبر.ويُعدّ تخفيض قيمة الجنيه بأكثر من 20% مصدر مكاسب عديدة للشركات الإماراتية، التي جاءت للاستحواذ على نسب كبيرة في شركات مصرية رابحة تديرها الحكومة. وفيما تكشف مصادر مطّلعة، لـ«الأخبار»، أن زيارة ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، الأخيرة لمصر، تطرّقت إلى هذا الموضوع على استحياء، فإن ما خفي منها هو أن الإمارات، التي ساهمت في تعزيز حُكم السيسي في بدايته، تدعمه اليوم للبقاء على رأس السلطة، وتجاوُز الأزمة الاقتصادية الحالية مؤقّتاً عبر استمرار الحلول المُسكّنة. ويتولّى عمليةَ «الإنعاش» هذه، من الجانب الإماراتي، «صندوق أبو ظبي السيادي للثروة»، الذي حصل على صفقة تبلغ قيمتها نحو مليارَي دولار، في صورة حصّة قدْرها 18% من «البنك التجاري الدولي»، أكبر بنك خاصّ مصري، والذي يستحوذ على 34.8% من قيمة مؤشّر «EGX30» للبورصة المصرية، فضلاً عن حصص في 4 شركات أخرى تُحقّق عائدات كبيرة في البورصة، ليتواصل بذلك التغلغل الإماراتي مالياً في الشركات الأكثر ربحاً وتأثيراً في السوق. وخلال السنوات الماضية، ركّزت الحكومة على طرح الشركات الخاسرة للمستثمرين، من أجل الاكتتاب فيها والمساهمة في إعادة بنائها، مع طرح عدد محدود من الشركات الناجحة، لكن هذه المرّة، اختارت أبو ظبي أن تتواجد في أكبر الكيانات المالية المصرية التي تحقّق عائدات كبيرة بشكل منتظم، بما يضمن عودة ما جرى ضخّه، خلال أيام قليلة، إليها مجدّداً، وتحقيق عائدات مستمرّة ومنتظمة، على الأقلّ خلال العقد القادم.
ما تقوله الحكومة بأنها تسعى للحفاظ على ما حقّقته من نجاحات اقتصادية، لكنّ الواقع لا يبدو داعماً للحديث عن تلك النجاحات. فخلال السنوات السبع الماضية، اقترضت الحكومة 20 مليار دولار من «صندوق النقد الدولي» فقط، بخلاف القروض الأخرى التي تجاوزت ذلك المبلغ بأضعاف، وسط توقّعات بأن تُراوح قيمة القرض الجديد بين 7 و10 مليارات دولار، في حين سيُخصَّص نحو 70% من الموازنة لتسديد القروض خلال الأعوام المالية الآتية. في المقابل، نجحت الحكومة في إقناع الإمارات والسعودية والكويت بإبقاء ودائعها في البنك المركزي المصري خلال الفترة المقبلة، وتمديد آجالها مع سداد فوائد على غالبيتها، وهي قروض من شأنها مساعدة السلطات الساعية إلى مزيد من الاقتراض عبر عدّة آليات، مع زيادات غير مسبوقة ومتتالية في الأسعار.
قرض «صندوق النقد الدولي» الجديد سيُستخدم لتسديد جزء من قيمة القروض السابقة


صحيح أن ما أعلنته الحكومة بخصوص المفاوضات مع «النقد الدولي»، مرتبط حتى الآن بـ«التحوّط» إزاء تداعيات الأزمة العالمية، إلّا أن قيمة القرض الجديد المنويّ الحصول عليه من الصندوق، ستكون انعكاساتها كارثية على الاقتصاد والموازنة في الفترة المقبلة، ليس بسبب الديون فقط، وإنّما أيضاً لتحرير سعر صرف الجنيه المتوقَّع أن تُبقيه السلطات حتى التوصّل إلى صيغة نهائية مع «النقد الدولي»، عند حاجز 17 جنيهاً للدولار الواحد تقريباً، مع نسبة مرونة لن تزيد عن 10%، علماً بأن قرض الصندوق لن يكون الوحيد الذي تُخطّط الحكومة للحصول عليه خلال الأشهر المقبلة، في وقت صدرت فيه بالفعل سندات «ساموراي» بـ500 مليون دولار. لكن حتى سعر صرف الجنيه أمام الدولار، والذي بات مستهدَفاً من الحكومة، لن يكون سعراً أخيراً، في ظلّ تَحوُّل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد قائم على الديون، وهو ما عبّر عنه وزير المالية، محمد معيط، أكثر من مرّة، بتصريحات مباشرة عن أن البديل من الاقتراض وفرض الرسوم غير موجود، ولا سيما مع تراجع عائدات السياحة بسبب الأزمة الروسية - الأوكرانية، وارتفاع الأسعار الذي تَسبّب بزيادة أعباء الموازنة بصورة غير متوقّعة، بينما لم يتجاوز الاقتصاد بعد تداعيات جائحة «كورونا».
المؤكد الآن أن قرض «النقد الدولي» آتٍ لا محالة، وأنه سيُستخدم لتسديد جزء من قيمة القروض السابقة. وفيما تُواصل الحكومة إنفاقها على المباني الحكومية الفارهة في العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة والقصور الرئاسية، يبقى المواطن المصري عاجزاً عن تَحمُّل تداعيات القروض التي زادت أعباءه المالية، واضطرّته لتقليص نفقاته والاستغناء عن أمور أساسية في حياته. وبذلك، تظلّ دوامة الاقتراض هي الدائرة الوحيدة المؤكّدة لدى النظام العاجز عن وضع رؤية محدّدة للتعامل مع الوضع الاقتصادي، مُفضِّلاً استخدام المُسكّنات حتى إشعار آخر.



الحكومة تتحايل على المواطنين
انعكست الأوضاع الاقتصادية العالمية على موازنة الحكومة، وأدّت إلى تراجع خطّتها لتقليص العجز نتيجة تضاعُف كلفة استيراد النفط، من 500 مليون دولار شهرياً إلى مليار دولار، بسبب ارتفاع أسعاره عالمياً، علماً أن مصر تستورد نحو 100 مليون برميل سنوياً. ولذا، ستعمل الحكومة على التوسّع في السداد بالآجل لوارداتها النفطية، بما يعني تحويل جزء من المدفوعات إلى ديون مؤجَّلة. أمّا بخصوص إعلان الحكومة تقديم موعد صرف زيادات الرواتب لتكون ابتداءً من الشهر المقبل، وزيادة المعاشات، وإدخال مزيد من الأسر في برامج الحماية الاجتماعية، فلا يعدو كونه تحايُلاً، بحسب مراقبين، لعدّة أسباب في مقدّمتها الزيادات المبرمجة سلفاً في أسعار الكهرباء والغاز والمياه في شهر تموز المقبل، ضمن برنامج الرفع الكامل للدعم عن جميع الخدمات، والذي من شأنه إخراج الآلاف من دائرته، بما يعني أن مَن سيجري إدخالهم يعادلون تقريباً مَن يتمّ استبعادهم. كذلك، لا تملك الحكومة أيّ نجاحات ملموسة يمكن أن تُقنع بها المواطن، سواءً نجاحات اقتصادية في ظلّ ارتفاع معدّلات النموّ المسجّلة، أو حتى في المشروعات التي تقيمها من توسيع للطرق وبناء للمساكن، بالنظر إلى الارتفاعات المتزايدة في الأسعار، والتي تلتهم قيمة ثروات المواطنين تدريجياً، بل وتُعرّض للخطر الاستثمارات الصغيرة في العقارات التي كانت حتى قبل سنوات قليلة ملاذاً آمناً للحفاظ على القيمة.