تستكمل الوفود السورية الثلاثة (الحكومي والمعارض ووفد المجتمع المدني) المشارِكة في اجتماعات «اللجنة الدستورية» في جنيف أعمالها، ضمن جدول محدّد يبدو أنه بدأ يؤتي ثماره بالابتعاد عن الخطوط الجدلية العريضة والمناكَفة التي لا تفضي إلى نتيجة، والانتقال إلى «الغوص في تفاصيل محدّدة»، بغية التوصّل إلى تفاهمات حولها من شأنها أن تفتح الباب على الانتقال إلى خطوات لاحقة. وعلى الرغم من إظهار الولايات المتحدة دعمها الإعلامي للجنة خلال الجولات السابقة، تبدي واشنطن هذه المرة جدّية أكبر، وذلك بعد اجتماع موسّع مطلع الشهر الحالي، قادتْه بنفسها، وضمّ ممثلين عن دول أوروبية وعربية عدّة، من بينها فرنسا وألمانيا والسعودية وقطر ومصر، بالإضافة إلى حضور ممثّل عن الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي، والمبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، خلُص إلى الاتفاق على دعم جهود الأخير، وتأييد خطّته «خطوة مقابل خطوة»، ودفْع مسار «الدستورية».ولتأكيد هذا الاهتمام، أوفدت الإدارة الأميركية مساعد وزير خارجيتها، إيثان غولدريتش، للمشاركة في الاجتماعات، في وقت وُضعت فيه على الطاولة مجموعة أوراق أُعدّت سابقاً، من بينها ورقة للمعارضة تعرّضت لانتقادات من الوفد الحكومي بسبب وجود ما سمّته مصادر الأخير «مغالطات» فيها، بالإضافة إلى احتوائها خطوطاً عريضة غير محدّدة، الأمر الذي دفع المجتمعين إلى تحديد مجموعة نقاط للنقاش حولها، لتتمّ العودة إلى النقاط الأربع التي حدّدها بيدرسن قبيل الجلسات، وهي: أساسيات الحوكمة، وهوية الدولة، ورموز الدولة، وتنظيم وعمل السلطات العامة. وأثارت النقطة الثانية جدلاً واسعاً، بعد تقديم مقترحات تتعلّق بهوية سوريا العربية، وهو ما دفع وفد الحكومة، بحسب مصادره، إلى التشديد على «عروبة سوريا»، وتقديم توضيحات تتعلّق بالتفريق بين بعض المصطلحات الإشكالية، أبرزها عدم وجود تعارض بين الهويّة العربية وبين وجود مكوّنات غير عربية في سوريا، بالإضافة إلى «مفهوم التعايش» الذي اعتبره الوفد الحكومي «مفهوماً مغلوطاً» قائماً على فهم خاطئ لفكرة مكوّنات المجتمع السوري، والتي أشار الوفد المعارض إلى بعضها باستخدام مصطلح أقليات، وهو ما رفضه ممثّلو الحكومة.
ظهرت خلافات جزئية بين قطر وتركيا مردّها إلى رغبة الدوحة في إعادة السيطرة على المعارضة السورية


اللافت في الاجتماع الذي انطلق في الواحد والعشرين من الشهر الحالي، ويستمرّ حتى الخامس والعشرين منه، تراجُع حدّة النقاشات، ووجود حالة تقارب في بعض المحاور، وفق مصادر مطّلعة، حيث شهدت الجلسة الثانية نقاشاً هادئاً على خلاف اليوم الأول، الأمر الذي اعتبرته المصادر مؤشّراً إلى احتمال إيجاد أرضيّة يمكن البناء عليها. كذلك، كان لافتاً انسحاب الناطق باسم «هيئة التفاوض» المعارِضة، يحيى العريضي، من الهيئة بسبب ما سمّاه «المسار العبثي للجنة الدستورية»، إلّا أن انسحابه لم يؤثّر على أعمال اللجنة التي تابعت نقاشاتها، في وقت ذكرت فيه مصادر معارِضة أن انسحابه جاء نتيجة «ضغوط قطرية لإفشال المسار الأممي الحالي للتسوية في سوريا»، كجزء من خطّة عمل تبنّتها الدوحة، تستهدف إعادة تشكيل المعارضة السورية مرّة أخرى، وإحياء فكرة «إسقاط النظام» التي تجاوزها «المجتمع الدولي» منذ سنوات. وأشارت المصادر إلى وجود «حالة قلق» في الدوحة من أن تُحقّق الاجتماعات الحالية تقدّماً ملموساً، لما لذلك من تأثير على مساعيها الحالية، خصوصاً أنها اصطدمت بـ«احتضان عربي» لدمشق وانفتاح متزايد عليها، بالإضافة إلى سعي أميركي لتجميد الأوضاع الحالية في سوريا، ومحاولة انتزاع مكاسب عبر طاولة التفاوض السياسية، بشكل لا يعيد التصعيد الميداني، في ظلّ حالة التوتّر الكبيرة مع روسيا.
وفي تطوّر غير مسبوق، ظهرت خلافات جزئية بين قطر وتركيا - التي تدعم مساعي «اللجنة الدستورية» -، الأمر الذي فسّرته المصادر بأنه نابع من رغبة الدوحة في إعادة السيطرة على المعارضة السورية، بعد أن تمكّنت أنقرة من تطويعها لمصلحتها وقيادتها خلال السنوات الماضية، وهو ما أدّى إلى تجميد نشاطها بفعل «التنسيق» الروسي – التركي في سوريا. وتتابع «الدستورية» أعمالها التي تنتهي يوم الجمعة، على أن تعود وتجتمع مرّة أخرى في الجولة الثامنة في أيّار المقبل، والتاسعة في حزيران، ضمن مسار محدّد رسمه المبعوث الدولي بالاتفاق مع الأطراف السورية والدولية، وسط حالة تفاؤل بأن يؤدّي العمل على مسارات متعدّدة ومتوازية إلى إحداث خرق في حالة الجمود السياسي القائمة.