قد يجد محمد بن سلمان نفسه أمام واحد من أخطر المفترقات منذ تولّيه إدارة الشؤون اليومية للمملكة عام 2017، عندما تُقرّر دول أوروبا، هذا الأسبوع، ما إذا كانت ستنضمّ إلى الولايات المتحدة في مقاطعة صادرات النفط والغاز الروسية، في ظلّ قرار اتُّخذ بالفعل بخفض واردات الغاز من روسيا إلى القارّة، بنسبة 66%، هذا العام، إذ سيضطرّ ولي العهد، حينها، إذا ما أفلتت أسعار النفط من كلّ الضوابط، للاختيار بين المُضيّ في مواجهة إدارة جو بايدن حتى النهاية، أو الاستجابة للضغوط وفق صفقةٍ ما تعيد العلاقات الأميركية - السعودية إلى مجاريها، وفق شروط لا يزال من المبكر تحديدها
صارت العلاقة بين وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، واستطراداً وليّ عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وبين الرئيس الأميركي جو بايدن، مادّة يومية في وسائل الإعلام الأميركية، بعد حرب أوكرانيا. فالكثير يتوقّف عليها، في ظلّ رهان أميركي كبير على مقاطعة أوروبية للنفط والغاز الروسيَّيْن، لتكبيد روسيا خسائر اقتصادية كبيرة تؤدي إلى ضغط شعبي داخلي على الرئيس فلاديمير بوتين، الذي يحظى بتأييد واسع حالياً للحرب، باعتبارها ضرورة لردّ المخاطر عن روسيا. لكن لا مفرّ أمام بايدن من الحصول على موافقة ابن سلمان، وابن زايد، على رفع مستويات الإنتاج لتعويض النفط والغاز الروسيَّيْن، ولو جزئياً، في حال اتّخاذ دول أوروبا قراراً بمقاطعتهما خلال مشاورات بينها وبين الأميركيين مقرَّرة هذا الأسبوع، ما يمكن أن يرفع أسعار النفط بشكل كبير (أعاد الروس تكرار توقّعات بأنه قد يصل إلى 300 دولار للبرميل)، غير أن الحاكمَيْن الخليجيين أظهرا حتى الآن صلابة في رفضهما لهذا المطلب مرّة بعد مرّة، بل رفضا، بحسب صحيفة «وول ستريت جورنال»، مجرّد الردّ على اتّصالات الرئيس الأميركي. وبلغ الأمر بوزارة الخارجية السعودية أن تطوّعت لنفي خبر صحافي عن نيّة وزير الخارجية الأميركي، أنطوني بلينكن، زيارة الرياض في وقت لاحق من الشهر الجاري، بعد فشل زيارة رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، مع أنها ما كانت مضطرّة لـ«التحرّش» بالإدارة بهذا الشكل، لأنه لم يَصدر أيّ إعلان في شأن جولة بلينكن عن الجهات الرسمية الأميركية.
فما الذي يجري فعلياً في العلاقات بين الإدارة الأميركية وبين الرياض وأبو ظبي؟ ومن أين جاء ابن سلمان وابن زايد بالشجاعة لتحدّي الإدارة الأميركية علناً والتفنّن في امتهانها؟ فلنبدأ أوّلاً بشواهد الضعف في الإدارة إزاء حاكمَي السعودية والإمارات. يمكن في هذا المجال إيراد شاهدَين رئيسيَن: الأوّل صمت إدارة بايدن المطبق على الإعدامات التي نُفّذت في السعودية، وشملت 81 شخصاً، بينهم من كانوا قُصّراً عند اعتقالهم قبل سنوات بتهم واهية، علماً أن هذه كانت مناسبة لكي ترفع الإدارة الصوت، ولا سيما أن مقاطعتها وليّ العهد السعودي تستند إلى جريمة مماثلة في شناعتها، هي اغتيال الصحافي جمال خاشقجي؛ والثاني قرار بايدن إمداد الرياض بعشرات صواريخ «الباتريوت» في الآونة الأخيرة، بعد وقفه توريد السلاح إلى المملكة بسبب حرب اليمن. وقد كانت آخر صيحة في فنون «التحرّش» بالأميركيين، عند إعلان السعودية «إخلاء مسؤوليّتها» عن أيّ نقص في إمدادات النفط للأسواق العالمية، بعد الهجمات التي تعرّضت لها المنشآت النفطية السعودية قبل أيام انطلاقاً من اليمن. مثّل ذلك تأكيداً آخر بأن المملكة لن ترفع مستويات الإنتاج. والأكثر إثارة للدهشة أن الذباب الإلكتروني السعودي، وبعض المعارضة «الإخوانية»، ذهب إلى حدّ اتّهام إدارة بايدن بتحريض «أنصار الله» مباشرة على تنفيذ هذه الهجمات.
مكمن ضعف بايدن هو أن ابن سلمان وابن زايد يمثّلان جزءاً من تحالف يضمّ إسرائيل والمعارضة الجمهورية وصناعة النفط الأميركية


مكمن الضعف لدى الرئيس الأميركي هو أن ابن سلمان وابن زايد يمثّلان جزءاً من تحالف بدأ يعيد لمّ شمله، ويضمّ أيضاً إسرائيل والمعارضة الجمهورية وصناعة النفط في الولايات المتحدة، والتي تتعزّز بارتفاع الأسعار. ويتقاطع هؤلاء عند سلسلة أهداف، منها الإطاحة بالديموقراطيين في مجلسَي النواب والشيوخ خلال الانتخابات النصفية التي تجري في تشرين الثاني المقبل، وإعاقة التوصّل إلى اتّفاق نووي بين إيران والولايات المتحدة، أو رفع الحرس الثوري الإيراني عن قائمة الإرهاب الأميركية، والذي تزايد الحديث عنه أخيراً، علماً أن وزارة الخارجية الأميركية أكدت قبل يومين، في إشارة إلى استرضاء السعوديين، أن الاتفاق النووي ليس وشيكاً. إسرائيل التي وضَعها تحريض بايدن الأوكرانيين على الحرب، في موقف صعب مع روسيا، لم تتأخّر في الدخول على الخطّ، فتولّى إعلامُها عرضَ وجهة هذا التحالف، بلسان سعودي، حيث نقلت قناة «كان» عن مَن وصفتها بالمصادر السعودية الرفيعة المستوى، قولها إن الحلّ لتحسين العلاقات بين دول الخليج والولايات المتحدة، «هو انتظار انتهاء ولاية بايدن»، في 20 كانون الثاني عام 2025.
ابن سلمان يغتنم لحظة مناسبة. فالرجل الذي كان قبل أشهر قليلة عاجزاً عن استئجار شركة علاقات عامّة واحدة تلمّع صورته في الولايات المتحدة، خوفاً من أن يلطّخ هو سمعتها، يجد نفسه اليوم مدعوماً من قوى نافذة داخل أميركا، ومن إسرائيل مع كلّ تأثيرها في الأخيرة. وفوق هذا، يتمتّع بعلاقة جيدة مع بوتين ومع الصين التي ما انفكّ يغازلها ويسعى إلى تحسين العلاقات معها. كذلك، هو يحظى، في رفضه زيادة إنتاج النفط، بتأييد شعبي سعودي، وحتى بموافقة بعض المعارضة المنفيّة، ولا سيما تلك القريبة إلى «الإخوان المسلمين». لكن استمرار هذا التأييد يتوقّف على ما إذا كان الحاكم الفعلي للمملكة ينطلق في مواقفه من مصلحة السعودية، أو من مصلحة شخصية تتلخّص في تثبيت طغيانه على السعودية وانتزاع اعتراف أميركي وعالمي بسطوته. وإذا كان الحال كما تَقدّم، وهو الأقرب إلى الواقع، فهو إذاً ينتظر صفقة مناسبة، سواءً مع بايدن، أو مع الإدارة المقبلة، تحسم نهائياً مسألة الحُكم في السعودية، التي ما زالت موضع تنازع تتداخل فيه عوامل محلّية تتعلّق بعدم حصول ابن سلمان على شرعية الأسرة الحاكمة، مع أخرى دولية منها العلاقة السعودية - الأميركية التي صارت مكلفة للولايات المتحدة، وصراعات إقليمية على النفوذ مع إيران، تتجلّى خاصة في حرب اليمن، ولكن أيضاً في نزاعات بين البلدين تمتدّ على كامل مساحة الشرق الأوسط.
لكنّ الوقت ليس مفتوحاً أمام ولي العهد السعودي؛ فسيكون عليه حسم خياراته قريباً. فإذا قرّرت أوروبا مقاطعة النفط والغاز الروسيَّيْن، وارتفعت الأسعار نتيجة ذلك بما لا تتحمّله الاقتصادات الغربية، حينها ستجد إدارة بايدن نفسها مضطرّة لاتخاذ إجراءات أقوى وأكثر حسماً ضدّ ابن سلمان، وستصبح تطوّرات العلاقة أكثر دراماتيكية.