تحوّلت الحرب السوريّة إلى «سوق» بكلّ معنى الكلمة. كلّ شيء قابل للمساومة، والبيع والشراء. مافيات كثيرة تشكلت. فبعدما كانت تكتفي بالاتجار بما تُفرزه الحرب من وقائع، باتت تُساهم إلى حد كبير في توجيه بوصلة الحرب لتتحوّل من طور الإفادة من الأزمات إلى طور تفصيل الأزمات على مقاس مصالحها. أحدث الأمثلة في هذا السياق تفجير الأنابيب الرئيسية لضخ المياه في مدينة حلب لتبدأ المافيات في جني مزيدٍ من «الذهب الأسود».
مطلع الشهر الجاري، هزّ انفجار ضخم مدينة حلب، تبيّن أنه نتيجة حفر نفق وسط طريق الميدان وتفخيخه. وأشيعَ حينها أن هدف التفجير تغطية تسلّل مسلحين إلى حي الميدان الواقع تحت سيطرة الجيش، قبل أن يُعلن أن «الهجوم فشل». لكن اللافت أنّ منطقة الحفر والتفخيخ والتفجير لا تحظى بأية أهمية «استراتيجيّة»، ولا يقعُ في «مداها المُجدي» سوى قساطل المياه التي يعرفُ معظم سكان حلب أنها تمرّ عبر الطريق. وقد أدى «الهجوم» إلى تدمير ثلاثة قساطل رئيسية من أصل أربعة مسؤولة عن ضخ مياه الشرب من محطة سليمان الحلبي، إضافة إلى قطع كابل الكهرباء 230 وكابل 66 اللذين يغذيان مضخات المياه، ما يعني قطع مياه الشرب عن المدينة المهددة بالعطش الدائم جرّاء التلاعب التركي المستمر بمياه نهر الفرات.

كميات المازوت التي يجري إدخالها تفوق الحاجة بأضعاف


إثر التفجير، تحرّك عدد من الجهات لـ«الحد من الكارثة» و«إصلاح ما تم تخريبه». لكنّ إصلاح أنابيب المياه يحتاج إلى الكهرباء المقطوعة بفعل التفجير، ليكون الحلّ الاعتماد على مولّدات الكهرباء التي يحتاج تشغيلها إلى المازوت. ولإدخال المازوت وورش الإصلاح، ينبغي التنسيق مع المجموعات المسلحة، وعلى رأسها «جبهة النصرة» التي تسيطر على مؤسسة المياه الواقعة على الطريق، إضافة إلى عدد من «الألوية التركمانية» و«لواء أحفاد المرسلين»، و«لواء الكرامة» (التابعين لأحد أشهر لصوص حلب خالد حيّاني) و«ألوية فجر الحرية» التي نفّذ مسلحوها التفجير تحت مظلّة «غرفة عمليات حي بستان الباشا».
سارع فرع منظمة الهلال الأحمر السوري في حلب، بإشراف ممثلة منظمة الصليب الأحمر، إلى التفاوض مع هذه المجموعات. وجرى التوصل إلى اتفاق سريع من مرحلتين، الأولى تشغيل مضخات المياه بالاعتماد على المولدات، ما يضمن ضخ مياه الشرب إلى أحياء حلب بالتناوب، بالاعتماد على القسطل السليم. وتتطلّب الثانية دخول فرقٍ لإصلاح أنابيب المياه وخطوط الكهرباء، على أن تتكفل منظمة الصليب الأحمر بدفع نفقات الإصلاح وثمن المازوت.
وبالفعل، بدأت الصهاريجُ تنقل بإشراف الصليب الأحمر ما معدّله 45 ألف ليتر يوميّاً. لكن مصادر متطابقة أكدت لـ«الأخبار» أنّ كميات المازوت التي يجري إدخالها تفوق بأضعافٍ حاجة محطّة الضخ المقدرة بـ 14 ألف ليتر مازوت كلّ 24 ساعة للعمل بكل طاقتها، علماً بأنها تعمل حالياً بأقلّ من نصف طاقتها. وتؤكد مصادر «الأخبار» أن «المضخات العاملة هي ثلاث من أصل سبع. وتحتاج الى أربعة ميغا للإقلاع، ثم تنخفض حاجتها بعد الإقلاع». وتوضحُ مصادر تقنيّة لـ«الأخبار» أنّ «توليد أربعة ميغا كهرباء يستهلك حوالى 8000 ليتر مازوت كلّ 24 ساعة». فيما تؤكد معلومات «الأخبار» أنّ «مجموعة توليد واحدة فقط تعمل في الوقت الراهن لمدة 12 ساعة يوميّاً»!

... الإصلاح لن يتمّ قريباً

«مؤسسة مياه حلب» أكدت أول من أمس عبر صفحتها الرسميّة على موقع «فايسبوك» أنّ «صيانة القساطل المتضررة تحتاج إلى تأمين المنطقة لفترة تتراوح بين 3 و4 أسابيع وروافع ضخمة وبواكر وآليات أخرى وعمّال»، مضيفةً إن «المنطقة حالياً ساخنة جداً، والمنظمات الأهلية تعمل على توفير دخول كل ما ذكر». ما يعني، بطبيعة الحال، أن لا مدى زمنيّاً متوقعاً للبدء في عملية الإصلاح. بما يعني أن عمليات إدخال المازوت بالكميات المذكورة أعلاه ستستمرّ إلى زمنٍ غير معلوم، لكي تستمرّ مياه الشرب بـ«التدفق المقنّن». لتبقى إشارات الاستفهام كثيرة حول مآل المازوت الفائض عن الحاجة، والجهات التي تتسلّمه. وحول أسباب دخوله بهذه الكميات في الأساس، حيث يُفترض أن الجهات التي تتولى ذلك أدرى بالكمية اللازمة للتشغيل. وعلى سبيل المثال، سبق لمنظمة الهلال الأحمر أن أعلنت أنها قامت بتاريخ 27 نيسان الماضي بـ«إدخال 26 ألف ليتر وقود. لزوم تشغيل مجموعات التوليد في محطتي التعقيم الثانية والثالثة في سليمان الحلبي، لمدة 36 ساعة (رغم أن المحطة كانت تعمل بكامل طاقتها في ذلك الوقت)»، مشيرةً إلى أن «تدخلات فرق الهلال الأحمر لإيصال الوقود إلى مؤسسة المياه، مع استمرار انقطاع التيار الكهربائي، تحصل يومياً لضمان استمرار ضخ المياه إلى أهالي حلب».