لم يدُم الهدوء الذي أعقب ما سُمّي «المصالحة الوطنية» في الكويت طويلاً، إذ عادت أجواء المواجهة لتنعكس على كلّ مناحي الحياة في البلد، الذي ازداد انقساماً بين تيّارَين سياسيَين: أحدهما تمثّله القيادة السياسية التي تبدو أضعف وأقلّ قدرة على التحكُّم في اللعبة منذ وفاة الأمير الراحل صباح الأحمد الصباح في أيلول 2020، وفي ظلّ مرض الأمير نواف؛ والثاني تمثّله المعارضة البرلمانية المشاكسة التي أظهرت أن بإمكانها دائماً استخدام تكتيك التأزيم لتحقيق مطالبها. على أن اللافت في هذه الجولة من الصراع، أن الشارع الذي كانت المعارضة تستخدمه، محيّد نسبياً، وهو ما يرجع، في جزء منه، إلى الطفرة النفطية الجديدة. ويجعل هذا الواقع القيادة السياسية في وضع أفضل، بخاصة أنها استطاعت استمالة جزء من المعارضة من خلال إشراكها في الحكومة عبر الوزيرَين مبارك العرو، الذي ينتمي إلى قبيلة المطران، إحدى أكبر قبائل الكويت، وحمد روح الدين الكندري، وكذلك من خلال العفو الذي أعاد إلى البلاد رموز المعارضة المهجَّرين إلى تركيا، وهو ما خلق شرخاً داخل المعارضة نفسها، على رغم أن الأسرة تبدو أضعف ممّا كانت عليه نتيجة صراعاتها الداخلية، وفي ظلّ غياب تسلسل واضح للوراثة. الحدث المفصلي الذي قسم المعارضة، كان الاتفاق الذي نجم عن ما سُمّي بـ»الحوار الوطني» الذي قاده النائب عبيد الوسمي ممثّلاً للمعارضة، مع رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم، الحليف الرئيس للأسرة، والممثّل الأوّل لطبقة التجار التي تهيمن على مقدّرات البلد الاقتصادية، والتي تسعى المعارضة للحصول على حصّة أكبر منها. وسمح هذا الاتفاق بتخفيف الطابع «الإخواني» والسلفي وحتى القبَلي للمعارضة، ما أفقدها جزءاً من خطورتها، بحيث صارت القيادة السياسية تتعامل معها باعتبارها جزءاً من يوميات الحياة السياسية، التي لا خيار أمامها إلّا التعايش معها. وعليه، استخدمت السلطة تكتيك سحب الذرائع، وليس المواجهة مع المعارضة. ومن هنا، كان القرار السريع بقبول استقالة وزيرَي الدفاع حمد جابر العلي الصباح، والداخلية أحمد المنصور الصباح، اللذَين برّرا استقالتهما بـ»تعسّف النواب» في استخدام حقّ الاستجواب، الذي نجا خلاله وزير الدفاع من اقتراع على الثقة به بفارق ضئيل، مثلما حدث مع وزير الخارجية، أحمد الناصر الصباح، الذي لم يستقِل على الرغم من ذلك.
وإذ من المتوقّع أن تستمرّ المعارضة في تصعيدها وصولاً إلى استجواب رئيس الوزراء، صباح الخالد الصباح، الشهر المقبل، بهدف إطاحة حكومته، فإن هذا التصعيد يضع القيادة السياسية أمام خيار مرجّح، هو حلّ مجلس الأمة، وإجراء انتخابات جديدة في غضون شهرَين من الحلّ، باعتبار أن تعليق الحياة البرلمانية من شأنه إعادة المشكلة إلى الشارع مع تأزيم أكبر، وفتح أبواب المساءلة الخارجية على الكويت. بالتالي، ليس أمام القيادة السياسية إلا تكرار إجراء انتخابات، ولو كانت التجارب تؤكّد أنه في كلّ مرّة يجري فيها اعتماد ذلك الخيار، تعود المعارضة أقوى في الانتخابات التالية. في المقابل، تراهن المعارضة على عامل الوقت وتحقيق المكاسب بطريقة القضم، وأيضاً على الخلافات داخل الأسرة التي تواجه استحقاقات، منها حسم اسم وليّ العهد المقبل، الذي يبدو أن الصراع عليه سيكون شديداً، مع تراجع حظوظ المرشّح الطبيعي، ناصر المحمد الصباح، والد وزير الخارجية الحالي، باعتبار أن السعودية تراه متساهلاً مع إيران.
استخدمت السلطة تكتيك سحب الذرائع، وليس المواجهة مع المعارضة


وفي ظلّ صعود أحمد النواف، أي نجل الأمير نواف الأحمد، لتولّي وزارة الدفاع بدل الوزير المستقيل، كما صار شبه محسوم، قد ينتقل موضوع ولاية العهد إلى جيل جديد من الشيوخ. فأحمد الناصر، الذي حمل الشروط السعودية إلى بيروت، قد يكون بديلاً مرضياً لوالده، أو حتى ورقة اعتماد تُقدَّم من الوالد إلى الرياض للقبول به. أمّا أحمد النواف، فمرشّح للمنصب باعتباره نجل الأمير نواف الأحمد الذي يتكرّر غيابه عن البلاد منذ تولّيه المنصب خلَفاً للراحل صباح الأحمد الصباح، في رحلات علاجية إلى الخارج، ولم يمارس الحكم إلّا بصورة متقطعة، وكان قد نقل جزءاً من صلاحياته، بما فيها تشكيل حكومة صباح الخالد الحالية، إلى وليّ العهد مشعل الأحمد الصباح.
ولأن المعارضة متأصّلة في المجتمع الكويتي، فإن أوجه الخلاف بينها وبين السلطة تمتدّ لتشمل كلّ شيء، لا فقط السياسة. ويعكس ذلك تصارُع ثقافتَين مع انقسام المواطنين بين حضر وبدو، بدءاً من اتهام البدو للحضر بالاستئثار بالثروة من خلال الشركات العائلية الكبرى التي تتولّى مشاريع البنية التحتية الضخمة وتسيطر على البنوك وشركات الاتصالات ووكالات السيارات واستيراد السلع الاستهلاكية، وصولاً إلى الرياضة المسيّسة، كما أظهرت «الهوشة» الأخيرة بين أنصار «النادي العربي لكرة القدم» وغريمه «نادي القادسية» التابع لأحمد الفهد، ابن شقيق الأمير، والذي كان قد أدين قضائياً في أيام صباح الأحمد بفبركة مؤامرة على القيادة السياسية، والخصم اللدود لمرزوق الغانم، الذي يملك «نادي الكويت». حتى الاستجواب الذي جرى لوزير الدفاع المستقيل، كان أحد محاوره الرئيسة قراره السماح بتطوّع الكويتيات في الجيش، الأمر الذي رفضته المعارضة وأثار جدلاً لم ينتهِ بعد، خصوصاً أنه يفتح باباً لتوظيف الكثير من النساء اللائي يسعَين للحصول على مصادر دخل لأسرهنّ.
وإذا كانت اتهامات المعارضة لرئيس الوزراء والوزراء بالفساد والتقصير، تطغى بشكل كبير على الخلافات وهي محور غالبية الاستجوابات، فإن مسائل أقلّ شأناً قد تثير جدلاً كبيراً، مثلما حدث بعد سقوط قانون حظر التشبُّه بالجنس الآخر في مجلس الأمة أخيراً، بسبب الاعتراض على عدم وضوح محدّدات هذا التشبّه، الأمر الذي قد يفتح الباب على تطبيقه تعسّفياً. إذ ذهب بعض أوساط المعارضة على وسائل التواصل الاجتماعي إلى اتّهام مُسقطي القانون بأنهم يريدون جعل البلد مركزاً للمثلية الجنسية في الخليج.