أولاً، «داعش» تحولت، الآن، إلى ما يمكن وصفه، حسب أنطونيو غرامشي، بـ«المنظمة العضوية» للقبائل العربية السنية في بادية الشام من الجزيرة السورية إلى الموصل إلى المحافظات الغربية العراقية. بضعة آلاف من المسلحين المنظمين استلحقوا التعبيرات السياسية والاجتماعية والعسكرية لسنّة العراق، من البعثيين وضباط الرئيس الراحل صدام حسين والعشائر والمثقفين إلخ.
في موقع «العربي الجديد»، القَطري المقرّب من هذه الأوساط، وصف عبد الوهاب القصّاب، اللواء السابق في الجيش العراقي، غزوات «داعش» بأنّها «ثورة شعبية مسلّحة»، وأنها تندرج «في خانة تحرير تقوم به تجمعات من أبناء العشائر، ومجموعات من ضباط الجيش العراقي السابق الذي وصفه بأنّه (الحقيقي)، و(حزب البعث العراقي)». وهذا صحيح وغير صحيح في آن واحد؛ فالواقع أن سنّة العراق، ككتلة، منخرطون في التمرد السياسي المسلح الذي يجتاح غرب العراق الآن، لكن ليسوا هم مَن يحدد برنامج الحركة، بل «داعش» هي التي تقود الجميع.
ثانياً، برنامج «داعش»، كما أوضحناه في مقالنا «دولة البدو في الشام والعراق» (الأخبار، الأربعاء 10 حزيران 2014)، يمتد إلى سوريا والأردن والسعودية. وفي فيديو بثته «داعش» قالت إنها أزالت «حدود العار» بين ولايتي الموصل والحسكة. «داعش» تحكم، الآن، عبر القطرين، وتتجه قواتها إلى الحدود الأردنية مستهدفة الاستيلاء على البادية الأردنية، وخصوصاً ميناء العقبة. لكن المشروع السنّي العراقي لا ينظر إلى خارج العراق، وهو متدرّج بين تيارات هي: (1) التيار البعثي الذي يسعى لاستغلال السنّة و«داعش» للعودة إلى الحكم في بغداد. وهذا مسعى مستحيل؛ فـ«داعش»، على رغم تهديداتها، لا ولن تستطيع اختراق العراق الشيعي، لأن نجاح حربها، في النهاية، يعتمد على الحاضنة القبلية السنيّة. (2) التيار المنخرط في المحاصصة، ويريد، من خلال دعم «داعش»، تحسين شروطه السياسية في بغداد. (3) التيار الفدرالي الطامح إلى وضع سنّي شبيه بوضع إقليم كردستان. (4) أخيراً، التيار الأقرب إلى جوهر مشروع «الدولة الإسلامية في العراق والشام». فـ«المثلث» العربي السنّي في شمال وغرب العراق معزول وفقير، ولا يمكنه العيش، موضوعياً، من دون علاقة عضوية مع الجزيرة الفراتية والبادية السورية، كما أنه يحتاج إلى منفذ بحري قاعدته «العقبة» الأردنية ويمتد إلى تبوك.
ثالثاً، انفصال العراق العربي السنّي أصبح، من الناحية الاجتماعية السياسية، واقعاً قائماً. حتى لو تمكن الجيش العراقي، بمساعدة أميركية أو إيرانية، من ضرب «داعش»، فسنكون أمام حرب أهلية طويلة، تذكّر بالحرب مع كردستان العراق. لقد فشل الإسلام السياسي الشيعي في إعادة بناء الدولة الوطنية العراقية. ظل يتصرف، في الحكم، كأحزاب وميليشيات مذهبية، وفشل، بالتالي، في إعادة الإعمار والتنمية والتشغيل وفي إنشاء جيش وطني مهني ومتماسك. وفشل، في الأساس، في اقتراح إيديولوجيا وطنية جامعة (وهو فشل حتمي بالنسبة إلى الإسلاميين، لأن الشرط الأساسي لإيديولوجيا كهذه هو العلمانية)، كما فشل في تصوّر وإنجاز منظومة تنموية، وحوّل جماهير الشيعة، كما يقول عبد الأمير الركابي، إلى «جماهير مواكب» ترعاها أجهزة دولة ينخرها الفساد بصورة غير مسبوقة.
رابعاً، تشكل هذه التطورات ضربة موجعة للنفوذ الإيراني الإقليمي، بينما سيكون لأي تدخل عسكري إيراني نتائج كارثية، أهمها إطلاق حرب شيعية سنيّة شاملة في المنطقة. في المقابل، سوف يحصد الأتراك نتائج إيجابية، أهمها صدام العرب السنّة مع الأكراد، واشتعال الحرب بين الطرفين في العراق وسوريا، ما يعزز قبضة أنقرة على مجمل الملف الكردي، ويفتح شهيتها لعلاقات هيمنة وتفاعل اقتصادي مع دولة «داعش» التي ستميل، لاحقاً، إلى التموضع السياسي في سياق إقليمي. ومن مكاسب تركيا التي يحكمها حزب إخواني طائفي، ما يقع بين أيديها من توسع جيوسياسي على حساب الدولتين العراقية والسورية، وصدّ التمدد الإيراني.
خامساً، إن سياسة التقارب الإيرانية مع الأتراك والإخوان المسلمين تتعرض لصفعة استراتيجية واقعية، وسيكون على طهران أن تعيد صياغة سياساتها، من الآن فصاعداً، لكي تكون أقل براغماتية وأقل إسلامية وتبحث عن حلفاء جديين في يقظة مشرقية عربية مدنية، بدلاً من الاستمرار في أوهام «الصحوة الإسلامية»، والضغط على دمشق للتفاهم مع ممثلي الاسلام السياسي واستعادة العلاقات مع «حماس».. إلخ.
سادساً، السعودية التي موّلت وشجعت أطرافاً سياسية وإرهابية، على أسس طائفية في العراق، تواجه الآن ما صنعت يداها، وهي عرضة لتحدٍّ وجودي ليس مصدره إيران، بل مشروع «الدولة» في بادية الشام. وليس أمامها، اليوم، سوى إجراء مصالحة عاجلة مع دمشق، وإعادة ترتيب البيت العربي مع العمود الثالث المتمثل في القاهرة.
سابعاً، لم يعد ممكناً استمرار سوريا والعراق، دولتين منفصلتين، إلا ككيانين ممزقين داخلياً، مهددين بالإرهاب والاقتتال الطائفي. الحل في اتحاد سوري عراقي، يقيم التوازنات الطائفية والاتنية اللازمة في فضاء المشرق العربي في إطار مشروع مشرقي علماني.