يبدو وليّ عهد البحرين، سلمان بن حمد آل خليفة، غير قادر على إنجاز مشروع سياسي، يُخرج البلاد من أزمتها الطاحنة، خلافاً للصورة الإيجابية التي رسمها لنفسه طوال سنوات عديدة. في الحِجاج السياسي، سيكون سلمان مرتاحاً جدّاً، عندما تُحال جذور الأزمة إلى سياسات والده الملك، الذي يقلّل استمراره في الحُكم فرص التوصّل إلى حلول مُرضية عمل وليّ العهد على اجتراحها قبيل عام 2014. وخلاصة هذه الحجّة أن الملك قد أنهى مشروعه السياسي ووصل به إلى ذروته، وبالتالي فهو غير معنيّ بمراجعة تداعياته، أو السماح لأيّ طرف بأن يعيد عقارب الساعة السياسية إلى الوراء، بعدما أنهى ظاهرة المعارضة من المشهد السياسي، وفتّت حراكها الميداني، وعزل كلّ جماهيرها سياسياً ومدنياً، وحتى الموالاة لقّنها درساً في «أصول التطبيل». عملياً، إذا ما استخدم سلمان هذه الحجّة، فهو يكرّر دعوى والده الملك عندما كان يُطلب منه إحداث إصلاح حقيقي وديموقراطية كاملة، فيتذرّع بأن المانع من ذلك هو وجود عمّه الراحل خليفة بن سلمان، وهذا الأمر كشفته «ويكليكس» في رسالة سرّية وعد فيها حمد بإصلاح حقيقي، جذْره عزل عمّه من منصب الحكومة، ولكن هذا لن يكون قبل إنهاء أزمة 2011، بحسب قوله.
المشروع الداهية
بطبيعة الحال، لا يشفع ما تَقدّم للاستنتاج بأن وليّ عهد البحرين هو نسخة عن والده، وأنه يعيد إنتاج المشروع السياسي نفسه. فخلْف سلمان رؤية وطريقة في الإدارة مغايرتان، وإن تمتّع الرجلان بمستوى الدهاء نفسه. بدأ وليّ العهد حياته في الحكومة عبر خطوة فصل الاقتصاد عن السياسة. ومن خلال «مجلس التنمية الاقتصادي» الذي أسّسه عام 2000، وسّع شبكة هائلة وضخمة، ربطته مع الشركات الكبرى وأعطته بطاقة دخول «نادي النيوليبرالية»، وابتدأ ذلك من خلال مغازلة الاقتصادات الإسلامية عبر تشريعات خاصة بالصيرفة الإسلامية في عام 2001، تبعها تدشين «منطقة البحرين العالمية للاستثمار» في عام 2005، وقبلها تحرير نظام الاتصالات في عام 2004، وهو ما سمح له لاحقاً بتوقيع اتفاقية التجارة الحرّة مع الولايات المتحدة الأميركية في عام 2006. ومن الطبيعي أن يُلحق هذه المشاريع بطرح ما عُرف وقتها ولا يزال بـ«رؤية 2030»، التي تقتضي بحسب مدلولاتها رفع دخل الأسرة البحرينية، وتحسين أداء الاقتصاد، وتقليل الاعتماد على النفط.
لم يكن وليّ العهد قادراً على الاستحواذ على مقدّرات الحكومة، وتهيئة الانتقال بقطاعات الدولة إلى القطاع الخاص كما تقتضيه «النظرية النيوليبرالية»، الأمر الذي تسبّب بخلاف قوي مع رئيس الوزراء آنذاك خليفة بن سلمان، ما استدعى تدخُّل الملك لمصلحة ولده، من خلال رسالة علنية أكد فيها انفصال الجسد الاقتصادي عن الجسد السياسي، والبدء في مشروع عزل خليفة اقتصادياً وسياسياً. تحقّق ذلك اقتصادياً عبر تسليم ولي العهد موارد الدولة وشركاتها، وتأسيس «شركة ممتلكات 2006»، التي ستستحوذ على أصول الدولة في الشركات الكبرى البالغة أكثر من ستّة مليارات، من دون أن تُدخل على موازنة الدولة أكثر من 20 مليوناً كحدّ أقصى. أمّا الجسد السياسي، بشقَّيه الداخلي والخارجي، فقد بات بعهدة الديوان الملكي منذ عام 2002.
تبدو «لعبة المستنقعات» الملجأ الأخير لاحتواء سياسات الفشل والأداء السيّئ


الحقيقة التي يجيد ولي العهد حجبها عبر لعبة أرقام مذهلة، هي أن تسلُّمه الملفّ الاقتصادي تزامن مع إحدى أكبر كوارث الاقتصاد في البحرين، ألا وهي بداية ركوب قطار ارتفاع الديْن العام، حيث أظهرت بيانات المصرف المركزي، أن الدين العام ارتفع بأكثر من 800 مليون دينار في عام 2010، ليبلغ حوالى 2.03 مليار دينار (نحو 5.3 مليارات دولار)، بعدما لم يكن يتجاوز 577 مليون دينار في عام 2000. لم تقف الكارثة عند هذا الحدّ، بل واصل الدين العام الارتفاع بسرعة، حتى وصل إلى أكثر من 13 مليار دينار بنهاية 2021. وبالمثل، فإن مستوى العجز في الموازنة كان يزداد سوءاً. ومهما قيل عن تساهُل اقتصادات العالم في شأن الدين العام المنعدم المخاطر، إلّا أن كارثيّة الأداء وسوء التخطيط قادا الاقتصاد البحريني إلى قعر الهاوية، حيث بلغت قيمة العجز في موازنة 2020 - 2021، 1.276 مليار دينار، مع قيمة ديون تبلغ أكثر من 600 مليون دينار سنوياً.
ما يجيده ولي العهد إزاء هذه الكارثة، هو تحريك ورقة لعبة الأرقام و«مشاريع الباوربوينت»؛ إذ تعتمد الصحافة المحلية على إبراز المبادرات الاقتصادية بأحلى صورة وإخراج فنّي لتغطية فشل «رؤية 2030»، أي الوصول إلى نقطة التعافي وانتهاء العجز المالي وانخفاض الدين العام، وهي أمور تبدو إعجازية حالياً لعدّة أسباب، على رأسها تقاعس الحكومة عن محاربة الفساد، واستمرار التصنيف العالمي للفساد في البحرين ضمن الرتب العالية.

لعبة المستنقعات
في الحقيقة، تبدو «لعبة المستنقعات» الملجأ الأخير لاحتواء سياسات الفشل والأداء السيّئ. وتقوم هذه اللعبة على محاولة توريط أغلب الفئات فيها، ولكن من دون أن تكون لهم أدنى سلطة في اتّخاذ القرار، حيث عليهم أن يمرّوا عبر مستنقعات متجاورة يصعب عليهم الخروج منها من دون التلطّخ بالوحل. ومن خلال مجلس الوزراء، تَصدر المبادرات المتتالية وغير الواضحة، مثل «حزمة التقاعد المبكر، فرض الضريبة المضافة، الإقامة الذهبية للأجانب، تفضيل وتشجيع الاستثمارات الأجنبية، إنشاء مصرف الشركات الصغيرة...»، بموازاة مشاريع ضخمة تستهدف خصخصة قطاعات الدولة، مع طرح مشاريع إنشائية عملاقة، وغيرها من أوراق تُعتبر مستنقعات تتورّط في السقوط فيها أغلب الفئات الاجتماعية والاقتصادية.
الأخطر في ذلك كلّه أن لا أحد يمتلك قرار المخالفة أو المعاندة، لسبب بسيط جدّاً، وهو انعدام المشاركة الشعبية في صياغة الرؤية أو اللعبة بالأحرى. فبهذه اللعبة، سيصبح وليّ العهد «المالك الحقيقي للمستنقعات»، وبِيده حبل الخروج، وعندما يستطيع تقسيم المجتمع وإنجاز تفتيت المفتّت. ستكون النهاية خلاف المتوقّع، إذ لا وجود لأيّ حبلٍ في المستنقعات المتجاورة، والمطلوب هو إدامة صبّ الماء لتكوين الوحل أكثر وأكثر. وهنا، تبدو المعالم الأوّلية لمشروع وليّ العهد السياسي الخالي من أيّ مشاركة سياسية ومن أيّ وجود حقيقي للمعارضة، ولكن ليس على طريقة والده المستبدّ، بل على «طريقة النيوليبرالية المتوحّشة»، والانتقال بالمجتمع إلى الانقسام الثنائي: مُلّاك أصول مالية (أجانب ومواطنون محدّدون)، مقابل غالبية مستهلكة على رغم مدخولها المتوافق مع التصنيف الدولي، إلّا أنها فقيرة في الدخل والقدرة المالية.

* كاتب وباحث من البحرين