أعدّت الباحثة الأكاديميّة الأستراليّة، كايلي مور جيلبيرت، رسالة دكتوراه عن البحرين، في حزيران 2017، بعنوان "المعارضة الشيعيّة والتحوُّل الاستبدادي في البحرين". الأطروحة التي صدرت عن جامعة ملبورن، تدرس وضعيّة تشكُّل ثورة "14 فبراير"، استناداً إلى 60 مقابلة، ودراسة تحليل محتوى غير مسبوق لنشاط المعارضة على الإنترنت. تُجادل الدراسة في أنّ "ربيع البحرين" أدّى إلى تحوُّل جذري في ديناميكيّات الحكومة والمعارضة، على حدّ سواء، ما سمحَ بانتقال النظام من نموذج "الاستبداد المقنّن" (الليبراليّة الاستبدادية) إلى الاستبداد الكامل. جمعت الدراسة مواد هذه الإشكاليّة، خلال فترة خمس أعوام بعد ثورة "14 فبراير"، مؤكّدة الاعتبارَ الأساسي لقوّة وسائل الإعلام الجديدة، التي ضاعفت من قدرة المعارضة على حشْد المؤيّدين والتواصل معهم، وتعزيز نهوض المجموعات الثوريّة على حساب المعارضة (القانونيّة) المسموح بها، وفق ترتيبات ما بعد عام 2001.وتفحصُ جيلبيرت القوى الصاعدة (الثوريّة)، بعد "14 فبراير 2011"، وتحديداً ائتلاف شباب "ثورة 14 فبراير"، كما تقرأ الوضعيّة المضطربة التي أحاطت كبرى جمعيّات المعارضة السياسيّة (جمعيّة الوفاق). وتتمّ قراءة الائتلاف، من خلال الأدوات المتنوّعة التي اعتمدها في مواصلة النضال، وفي التحايل على إجراءات القمع الرسميّة. وفي هذا الإطار، تجد جيلبيرت أنّ وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دوراً مهمّاً في تمكين الائتلاف من القيام بهذا الدور. وقد ترافقَ ذلك مع الاستراتيجيّة الخاصّة التي اعتمدها الائتلاف، عبر الاحتماء بهيكلٍ تنظيمي غير مركزي، ومجهول، بغرض إضفاء الأمان الرقمي على نشاطه في الإنترنت. الخطوة الفريدة التي قام بها الائتلاف، بحسب جيلبيرت، هي التوظيف الفعّال لصفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى نحو يجعله حاضراً في الميدان، ومؤثّراً فيه، من خلال إبراز الحيويّة في الإدارة على الأرض، وعلى الهواء مباشرة (النقل الحي والتوثيق اللحظي للاحتجاجات).
تستفيد جيلبيرت من مقولة "النظام الهجين" في تحليل عمليات الإكراه والتدجين، التي قام بها النظام في إدارة علاقاته الملتبسة/التثميريّة مع قوى المعارضة. وبالنسبة لجمعيّة "الوفاق"، تقدّم تحليلاً يعكسُ الرواية السائدة بخصوص نشأة "الوفاق"، واضطراب التعاطي مع دستور 2002 (دستور المنحة)، والتداخلات المتنوّعة التي صاغت الهويّات المتنازع عليها داخل الجمعية، وما أفرزه ذلك، قبل العام 2011، من سجالاتٍ ومناقشات، وانشقاقات غير يسيرة.
وتقول الباحثة الأكاديمية إنّ أمراً مهمّاً قامت به "ثورة 14 فبراير" على صعيد نجاحها في نزْع كثير من أقنعة النظام، وأفلحت في كشْف ألاعيبه، واحدة تلو الأخرى. لكن الأمر لم يبلغ المدى الذي يتناسبُ مع موازين الصراع غير العادلة، والتي ازدادت فجوتها في أواخر العقد الأول للثورة. في أكثر من مقطع، اجتهدت بيئاتُ المعارضة في عدم إهدار ما تبقّى من عوامل الصمود، ونأت مراراً عن التأقلم مع الوقائع المفبركة التي فرضها النظامُ لإنزالِ الهزائم النفسيّة وتطويق كلّ محفّزات النهوض مرة أخرى. من هذه الزاوية، تكاد تكون أطروحة جيلبيرت فريدة من نوعها، رغم الوضع الإشكاليّ الذي آلت إليه الباحثة (توقيفها في إيران بتهمة التجسُّس على معارضين بحرانيين هناك، ثم الإفراج عنها في صفقة تبادل أسرى في تشرين الثاني 2020). هذه "المحنة" ستُوجع بلا شكّ طرائقَ التلقّي تجاه جيلبيرت، وهي نفسها لجأت إلى قطْعِ كلّ الروابط مع البحرين، بعد خروجها من السجن، وما زالت حتّى اليوم تتحاشى التطرُّق لشؤون البلاد التي أحبّتها وانشغلت بها كثيراً! من المستحسن، رغم ذلك، التحصُّن بما كان يصفه الراحل سماح إدريس بـ"أولويّة فضّ الاشتباك"، لأجلِ إعادة ترميم التلقّي مع أعمال جيلبيرت حول البحرين وثورتها، التي أعدّتها في حزيران 2017، أي وقت اكتمال المشهدِ الأفقي والعمودي للثورة.
قدّم أكاديميون غربيّون أبحاثاً عميقة لفهم السياقات التي سبقت "عيد الحبّ الثوري" في البحرين


خلال العقْد المنصرم، أصدرَ غربيّون وأجانب جملةً من الأعمال الأكاديميّة والدراسات والمقالات الجادّة حول البحرين. استطاعت هذه الأعمال أن تُحْرز جدّيتها، بعد التخلُّص من إشكاليتين، كما فعلت دراسة جيلبيرت. الإشكاليّة الأولى، هي الوقوعُ في اللعبة التي جسّدها "الفيلسوف الشبّيح"، برنار هنري ليفي، عبر اختراق "الثورات" العربيّة وتسميمها. والإشكاليّة الثانية، هي الخروجُ من التحليل النمطي الذي اعتادت وكالات الأنباء توجيهه، عبر الحديث عن غالبية وأقليّة في البحرين، وصراع قائم بينهما انطلاقاً من خلفيّات طائفيّة.
ثمّة انطباعات بحثيّة مهمّة سجّلها صحافيون غربيّون تجاه الثورة المنسيّة، كانت ثمينةً ومثمّنة بقدرٍ كبير، لتجاوزها الإشكاليتين أعلاه. يُشار، مثلاً، إلى الصحافي والباحث الفرنسيّ جاك كيبل، الذي أجرى زيارات صحافية للشرق الأوسط، بينها البحرين، خلال الفترة بين عامي 2011 - 2013، وسجّل يوميّاته في بلدان "الربيع العربي"، على طريقةِ الباحث المليء بشغف "المستشرق العاشق". وقد نجحَ كيبل، بحدودٍ كبيرة، في مهنة الصحافي غير المُنحاز، عبر انقياده للحرّية والعدالة، وفضْح الاستبداد، واستفزازه لأخطاء الانجراف للفوضى. وفي حين يكشفُ كيبل الألوانَ الرماديّة للبائع المتجوِّل الذي أشعلنا حتّى اليوم، فإنّه يتتبّع الألوانَ التي تلوّنت في دول الخليج وتوابعها في الإقليم، وكيف أنتجت ثوراتٍ برتقاليّة وثورات مضادّة، وأصنافاً أخرى من تكتيكات الإجهاض، وهو استقصاءٌ يستحضره كيبل، في كلّ مكان يحلُّ فيه، عبر استذكار وضْع البحرين وثورتها، التي يرى أنّها حوصرت بكلّ ما سبق، مع حزمةٍ أخرى من الصفائح المتحرّكة في الدول الأخرى، وبطنطنات عزمي بشارة والخرائط المزدحمة في سوريا.
قريباً من رصانةِ كيبل، يحملُ الصحافي الأميركي، نيكولاس كريستوفر، البحرينَ معه في زياراته لدول الشرق الأوسط، حيث استشرفَ مشاريعَ الغدر التي تتجهّز ضدّ ثورتها، وعلى النحو الذي حصلَ مع دخول جحافل "درع الجزيرة". يضعُ كريستوفر "النّشوة العامّة" التي ارتفعت في "دوّار اللؤلؤة"، في إطار "صرخةٍ في ظلامِ" الخليج المُثقل بالقمع وأنظمة العبوديّة، وهو سياقٌ يعتبره تهديداً وجوديّاً، ما يستدعي من تلك الأنظمة تحريك كلّ ما يخطر على البال لضمان أن تذهبَ مجريات البحرين إلى منحى آخر.
قدّم أكاديميون غربيّون أبحاثاً عميقة لفهم السياقات والحالات التي سبقت "عيد الحبّ الثوري" في البحرين، بينهم كريستوفر ديفيسون، حيث استظهر الاهتزازات التي ترتدُّ داخل المشيخات في الخليج، وتوقّعاته بسقوط هذه المشيخات تحت تأثير العنصر الاقتصادي والاجتماعي غير السوي، رغم ما أظهرته من استقرارٍ أمام "ثورات الربيع"، ليبقى سقوطها مجرّد "عامل وقت"، وبانتظار اختمار المعطيات الكاملة. بدوره، يدخل جيستن غينغلر في تفاصيل المنظومة العامّة في البحرين، بالاستفادة من مسوحات دقيقة مع الفاعلين وعموم المواطنين العاديين داخل البلاد، من أجل إثبات العُسر البنيوي للنظام في الانفتاح على المواطَنة المتساوية، بسبب البناء الريعي للدولة غير المكتملة، وانشداد النظام لتكتيك قديم يقوم على تعميق الانقسام العمودي، وتأجيج التنافُر الهويّاتي والطائفي بين جماعات المعارضة.
وقد استطاع توبي ماثيسن أن يقيم سرديّة أوسع لتلك "السياسة الطائفيّة، حيث كان ماثيسن حاضراً في "دوّار اللؤلؤة"، ورأى كيف أنّ النّظام كان يؤسّسُ منهجيّة هجوميّة على أساسِ التلاعب بخطوط الصدع داخل المجتمع لإعاقة الصعود الاحتجاجي العابر للطوائف والهويّات الفرعيّة. يضع ماثيسن الأمورَ في نصابها السياقي، مع تتبُّع "الهويّة الطائفيّة" التي عُمّمت في البحرين، عبر جسر الملك فهد الذي يربطها بالسعوديّة، ومنها يرسمُ التوظيفات الفعّالة في قمع المعارضة، من بوابة التُّهم الجاهزة (التدخُّل الخارجي، الفتنة الطائفيّة).
في الطور الأخير الذي استوى فيه النموذجُ الاستبدادي الجديد في البحرين (الاستبداد المعسْكَر)؛ يبرز العملُ الأخير للباحث البريطاني، مارك أون جونز، ("القمع السياسي في البحرين"، كامبريدج 2020)، الذي يُعيد الإمساك بأدوات التواصل الاجتماعي، وكيف حوّلها النظام إلى أداة غشومةٍ للقمع، ولإشاعة الكراهيّات، مكمّلاً أطروحة جيلبيرت في هذا الموضوع، مع تقاطُع شبيهٍ لناحيةِ تأسيس علاقةٍ ودّية و"شخصيّة" مع "ثورة البحرين" (مع ميزة أنّ جونز ظلّ متمسّكا بهذه العلاقة بخلاف جيلبيرت)، على النّحو الذي يظهر مع الامتزاج داخل الفعل الثوري في البلاد، وبشكلٍ طريّ، والقبول بالمجازفةِ والاندفاع حتى نهاية هذا الخيار، على أملِ استقصاء الاستراتيجيات والتكتيكات التي كوّنتها قوى الثّورة، بطبعاتها المتنوِّعة، ووضْعها في إطاراتٍ بحثيّة تتراوحُ بين أمرَين: الوقوف على تطويرات النظام لنموذجه الاستبدادي، من جهة، والتحدّيات التي واجهتها قوى الثورة، بسبب خطط النظام في استنزاف موْردها الاحتجاجي الفعّال، من جهةٍ أخرى.