قد يبدو مكوث قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال إسماعيل قاآني، أياماً طويلة في العراق، ليجتمع بزعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، الذي رفض في البداية لقاءه، إهانة للجنرال الإيراني وما يمثّل، خاصة إذا علمنا أنه أرجأ زيارة ملحّة إلى دمشق، ليتسنّى له البقاء في العراق، لكن ما هو قيد النقاش مع الصدر يستأهل تجاوز هذه الشكلية، ولا سيما بالنظر إلى شخصية مقتدى المتقلّبة، في الآونة الأخيرة. فالنقاش يتجاوز مشاركة «الإطار التنسيقي» في الحكومة، أو هذا الفصيل أو ذاك من فصائله، ليتناول ما يمكن اعتباره «خطوطاً حمراء» تتعلّق بالمصالح الحيوية المشروعة لإيران في البلد الجار، من حيث الحاجة إلى منع استخدامه ضدّها.أعاد الصدر، خلال اللقاء، تأكيد موقفه الذي يتمسّك به، قائلاً لضيفه: «إمّا أحكم وإمّا أعارض»، وهو ما لا يخرج من سياق رفع السقف الذي يعتمده مقتدى منذ فوزه في الانتخابات الأخيرة، بـ73 مقعداً من أصل 329 مقعداً في مجلس النواب، وهي حصّة لا تتيح له حُكم العراق كلّه، كما يريد. لكنّ قاآني لم يذهب إلى مقرّ الصدر في الحنانة لإقناعه بإشراك «الإطار التنسيقي» في الحكومة، وإنّما ليبلغه برؤية إيران لما يحدث في العراق. فالإنجازات التي تحقّقت منذ سقوط نظام صدام في عام 2003 وحتى الآن، مع تراجُع الحضور الأميركي وبروز دعوات أميركية إلى سحب كامل الجنود من البلد أسوة بما حدث في أفغانستان، كلّفت دماً، وليس من المنطقي القبول بالمساس بها، فيما لدى مقتدى مطالب تمسّ بوضوح بتلك الإنجازات، مِن مِثل نزع سلاح المقاومة وإعادة هيكلة «الحشد الشعبي». هذا المطلب، الذي يشبه الدعوة إلى نزع سلاح «حزب الله» في لبنان إذا تغيّرت الغالبية في مجلس النواب بزيادة نائب لفريق أو آخر، يعني عملياً تفكيك حلقة من حلقات محور المقاومة، وقطع الطريق بين إيران والمقاومة في لبنان وفلسطين، وأيضاً مع سوريا. ومن هنا، يدأب مَن هم حول مقتدى، وفق المعلومات، على تذكيره بمخاطر بعض مطالبه، فيجيب بأنه إنّما يرفع السقف للحصول على تنازلات إيرانية، ما يعني أنه سيكون مستعدّاً للتوصّل إلى تسوية.
أمّا ما يقوله من أنه فاز في الانتخابات ومن حقّه أن يشكّل ائتلافاً حاكماً، فهو محقّ فيه. وقد قيل لـ «الحشد» والفصائل مراراً، منذ الانتخابات، إنكم أنتم من أوصلتم أنفسكم إلى هذا الوضع من خلال الخلافات في ما بينكم. ولكنّ الحكومة شيء، والمساس بالمصالح الحيوية لإيران شي مختلف تماماً. فلم يسقط الحاج قاسم سليماني شهيداً في العراق، حتى يتمّ تسليم البلد لِمَن يريدون أخذه في اتجاه مختلف. إلّا أن الإيرانيين يتميّزون بالنفَس الطويل، ودائماً ما يعودون إلى التاريخ الشيعي في تجنّب الصدامات والفتن في التعامل مع حالات التمرّد. والاقتتال الشيعي ليس خياراً وارداً بالنسبة إليهم. ولذا، ما زال الحوار مع مقتدى ممكناً، خاصة أن طهران ليست حاسمة بأنه يريد الذهاب في الاتجاه الآخر. ولذا أيضاً، يمكن أن تتحمّل طهران ما أظهره الرجل من تقلّبات في رفضه لقاء الجنرال قاآني في البداية، خاصة أن تجارب التعامل معه منذ أيام سليماني، تشير إلى أنه يستجيب، إذا وجد أن الخيارات الأخرى أكثر كلفة، كما تشير إلى ذلك تبدّلات مواقفه خلال الأشهر القليلة الماضية، حيث كان يعود إلى التفاوض في كلّ مرّة يشعر فيها بأن الأمور تكاد تخرج عن السيطرة، وآخر مثال على ما تَقدّم أحداث ميسان.
تجارب التعامل مع مقتدى تشير إلى أنه يستجيب، إذا وجد أن الخيارات الأخرى أكثر كلفة


ما يريده مقتدى، باختصار، هو أن يكون «السيد القائد» في العراق، وأن يتعامل بندّية مع الجانب الإيراني، وحينها، كما يقول، يمكن أن تقام أفضل العلاقات بين البلدين، لكن طموحه هذا يصطدم بمعوّقات عراقية، وليس إيرانية. فهو يَفترض أن يتقدّم مقتدى إلى موقع المرجعية في العراق، الأمر الذي يَظهر أنه غير ممكن في ظلّ وجود مرجعية السيد علي السيستاني، وفق ما أثبتته مجدّداً الحملة التي تعرّض لها الصدر بعد كلام القيادي في تيّاره، حازم الأعرجي، عن المرجعية، وعدم اتّخاذ الأوّل تدبيراً بحقّه سوى الطلب منه الاعتذار عن ما اعتُبر محاولة لتجاوز المرجعية في حياة السيستاني. الصدر، وعلى رغم كونه رمزاً لا ينازعه أحد داخل تياره، أو في أوساطه الشعبية، قد يواجه مشكلة مع جمهوره أيضاً، إذا لجأ إلى خيارات غير منسجمة مع الوجدان الجماعي لأنصاره، الأمر الذي قد ينجم عنه بروز ضغوط عليه من داخل التيّار، خاصة أن «عصائب أهل الحق» التي تمثّل حالياً منافساً أساسياً له، خارجة من رحم «الصدريين»، ما اضطرّه في حالة ميسان، إلى دعوة «الإخوة في التيار والعصائب إلى التحلي بالهدوء... وليجمعهم محمد الصدر إن لم يكن مقتدى». فمعظم احتكاكات «التيار الصدري» تكون مع «العصائب»، وليس مثلاً مع «كتائب حزب الله»، لأن الكتائب متخصّصة في مقارعة الأميركيين على أرض العراق، وفي التعامل مع دول الجوار والإقليم، على رغم وحدة الموقف بين قوى المقاومة. ومع ذلك، يمثّل ما حدث قبل أيام، حين نفّذت «الكتائب» حملة تطهير امتدّت من الحدود التركية إلى القائم على الحدود السورية، رسالة إلى الداخل والخارج. ويبقى أحد أهم المعوقات أمام طموح الصدر إلى تشكيل حكومة غالبية، هو خوف الأكراد من تفرّده بالحكم، حتى إذا كان «الحزب الديموقراطي الكردستاني» قد أظهر استعداداً لمثل هذه المشاركة، إذا كانت تصبّ في خانة إحكام سيطرته على «إقليم كردستان»، علماً أن ثمّة تخوّفاً كردياً أيضاً من توحّد السنة الحاصل حالياً تحت قيادة محمد الحلبوسي برعاية إقليمية، تركية إماراتية تحديداً، وهؤلاء يُفترض أن يكونوا الطرف الثالث في أيّ حكومة غالبية مع الصدر و»الديموقراطي الكردستاني».
ما تَقدّم يؤكد صعوبة وصول الصدر إلى هدفه في حُكم العراق المتنوّع والمعقّد التركيبة، إلّا إذا كان يقبل بخطّة جو بايدن لتقسيم العراق إلى ثلاثة كانتونات للشيعة والسنّة والأكراد. وحتى في هذه الحالة، ليس ميسوراً له حُكم الكانتون الشيعي وحده. غير ذلك، تعني حكومة الغالبية، استبدال فسادٍ يتهم القوى السياسية الشيعية الأخرى به، بفساد مسعود بارزاني والحلبوسي، وقبل كلّ شيء بالفساد المستشري داخل تيّاره المتغلغل في الدولة العراقية منذ أيام صدام وحتى اليوم.